للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وعليهما خطوط الشيوخ، والصحيحان لمسلم والبخاريّ، وجامع سفيان، ومسانيد عدّة عن التابعين، ولي- وأحمد الله- إملاءات عدّة في تفسير القرآن وتأويله وتخريجات من الصحاح المذكورة. وسمعت كتابي المزنيّ عن الطحاويّ عن المزنيّ (١). وأمّا الأحاديث المنشورة [٤٦١ ب] التي كنت أباكر بكور الغراب لاستماعها، وأطّرح رتبة الدنيا في مزاحمة أشياعها، فأكثر من أن تحصى. وكيف يظنّ بمثلي ممّن ظهر تماسكه إن كان لم يظهر باطنه، تعلّق بالهباء المنثور، وتمسّك بالضلال والزور؟ أعوذ بالله! .

ثمّ من بعد: فممّا يكثر تعجّبي منه أن تستمرّ هذه الشبهة فيعتقد أنّ أهل مصر كلّهم على المذهب الذي لا يرتضى. فإنّ السنّة المصمتة (٢) غالبة على أهل مصر حتى لا أعرف واحدا فردا يشذّ عنها، بل ربّما تعلّق بعضهم بمحبّة أهل البيت عليهم السلام، وانفرد بها انفرادا يخصّ به المحقّين منهم ويعدل فيه عن غيرهم، حتّى إنّه ليس هناك أحد يتشبّت بذلك المذهب إلّا حشو من العوامّ غرضهم الانتصار به من الذلّة والتشرّز (٣) على نظرائهم من السوقة.

ثمّ إذا نظر إلى ما منيت به في تلك البلاد من ذهاب السطوة الجائدة بدوح لي وأغصان، وشيوخ وشبّان، علم أنّ قلبي لو كان صافيا (٤) لتكدّر تكدّرا لا يرجى بقاؤه أبدا. ومن المعلوم أنّي لو أنست بتلك البلاد لكان لي إليها بعد ذهاب الشخص الأوّل طريق لحب (٥)، ومذهب سهل. إلّا أنّني علم الله، نافر منها ومن مالكها نفورا قد صار صبغة لا حيلة في زوالها، ولا طريق إلى انتقالها، لأنّها ليست لي وطنا ولا «أوّل أرض مسّ جلدي ترابها» (٦) فأتأسّف عليها. والعجب أنّي كنت في الظواهر لا في البطاح، بأكناف ذلك السرير المقدّس النبويّ، لا بمرأى أيّ منه ومسمع، وحولي من أعصي به وأطيع، وأنفع وأضرّ، من أمراء العرب حرسهم [٣٩٣ ب] الله في طوائف كثيرة من العجم، فما حلت قطّ عن التمسّك بالولاء والتقرّب، فكيف الآن، لمّا صرت متقلّدا خدمة هذه السدّة، زاد الله في بهاء سلطانها، ومتطوّقا أمانته في تشييد عزّها، ومتّخذا هذه القصور البيض معقلا لي ولولدي، أعدل عن ذلك؟ إنّ هذا لمن العجائب كما قدّمت ذكره. ومن السياسة العلويّة الآن أن يكشف كلّ ما رقّي حتى يبلغ إلى آخره ليعرف حقّه من باطله، وصدقه من ماحله.

فقد أحدث للقلب الأشرف انزعاجا، وللسرير الأعظم ارتجاجا، وابتذلت الألسن من الذكر ما كان يجب أن يكون مصونا عنها، وكنت أنا خاصّا جاريا بشوط الجموح في الخدمة. ثمّ قد يعلم الله، لئن نشأ لي طروق هذه التهمة العائرة، أحلّ الله السوء الممحق من كان سببها.


(١) المزنيّ (إسماعيل بن يحيى، ت ٢٦٤): هو صاحب الشافعيّ ومصنّف المختصرين الكبير والصغير في فقه الشافعيّ (ترجمته مرّت برقم ٧٤٧) وأبو جعفر الطحاويّ (أحمد بن محمد بن سلامة ت ٣٢١) روى عن خاله المزنيّ قبل أن ينتقل إلى مذهب أبي حنيفة (ترجمة ٦٦٦)، وجاء في الصفحة الأولى من الترجمة هذا الاعتراض: لم يلحق المزنيّ لأنّ موت المزنيّ قبل مولده ب [ ... ].
والحقيقة أنّ الوزير المغربيّ لم يدّع ذلك.
(٢) المصمتة: النقيّة من كلّ شائبة، كالفرس المصمت، الذي لا يخالط لونه لون آخر.
(٣) التشزّر قد تعني التعالي والتكبّر.
(٤) أي: لو كان صافيا للشيعة الفاطميّين ...
(٥) الطريق اللحب واللاحب: السهل الواضح.
(٦) شطر بيت لرقاع بن قيس الأسديّ، وصدره:
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي ... وأوّل أرض ...

<<  <  ج: ص:  >  >>