للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأخذ شكر بيدي، وعدل بي إلى موضع فنزعت ثيابي ودفع إليّ مبطّنة ومنديلا وشمشكا (١) وقال لي: امض مصاحبا، ودفع إليّ عشرين دينارا وقال: «هذه نفقة طريقك». ثمّ استدعى أعرابيّا اسمه حسّان وسلّمني إليه وقال: هذا الرجل، فاحفظه وأوصله إلى حيث أمرت.

فخرجنا إلى رحبة الجامع، فإذا هناك أربعة أحمال ورجلان من العرب، فركبنا وسرنا.

فوصلنا إلى مصر في سبع وعشرين ليلة. فقال لي صاحبي الأعرابيّ: «امض في حفظ الله! » ولا والله ما سألوني من أنا، ولا في أيّ شيء توجّهت.

وقصدت باب الجامع، فإذا الخادم الأبيض، وبين يديه قمطرات فيها فراخ مسمّنة. فقلت له:

«صديقك يقرئك السلام». فنهض ومشيت خلفه، فدخل حجرة بالقرب من الجامع ودخلت معه فنزعت ما كان عليّ ولبست من عنده ثيابا نظافا.

ودفع إليّ دينارا وقال: «امض إلى الحمّام! » فدخلت الحمّام وخرجت، وأكلت شيئا، وقصدت زقاق القناديل، ورأيت الشيخ وعرفته. وجرى أمري وأمره كما أمر عضد الدولة.

ولم أزل ألطف به إلى أن أجاب، ودفعت إليه خمسة دنانير لنفقة عياله، وعزمنا على الخروج فعدت [٥٤٤ ب] إلى الخادم وودّعته. ولبست ثيابي التي وردت بها ورددت ما كنت لبست من عنده وأعطاني عشرين دينارا لنفقتنا وقال: الخبيث خارج معك؟

قلت: وما يدريك؟

قال: خبره عندي.

وتوجّهت [٤١٠ أ] أنا والشيخ حتى وردنا الموصل بعد أربعة وخمسين يوما، وأهلي وأقاربي

بها. فاستأجرنا ركوة (٢)، ومضى الملّاح إلى صاحب الخبر ليأخذ الكتب، وأعلمه أنّ معه الحسين الحلاويّ وشيخا آخر، وردا من مصر.

(قال) فاستدعاني صاحب الخبر فسألني عن أمري فعرّفته أنّني كنت بمصر في أمور لي. وانحدرنا ووصلنا إلى بغداد في سحرة اليوم الرابع. فما شعرت إلّا ونقيب من الدار يستدعيني ومن معي، فعجبت من ذلك، وكان صاحب الخبر قد كتب بخبرنا فبادرت، ومعي الشيخ، وعبرنا إلى الدار، وجلسنا إلى أن خلا وجه عضد الدولة.

وأدخلت، والشيخ معي، وقد طار لبّه وعظم رعبه، وأنا أسكّن منه، وعدل بي إلى موضع فيه شكر. فنزعت ما كان عليّ من الثياب، وأنا أراها وقد أخذت، وحملت إلى حضرة الملك، وأعطيت ثيابي التي نزعتها عند خروجي، ومثلت بين يدي الملك عضد الدولة، والشيخ معي.

فقال: كيف جرى الأمر؟

فقلت: على ما مثّله مولانا.

ودعوت له. فقال للشيخ: أنت فلان بن فلان الحلاويّ؟

قال: نعم.

قال: لا تخف، وإن كنت قد أسأت إلى نفسك وجشّمتها السفر عن منزلك بالفضول من قولك وفعلك.

فبكى الشيخ بكاء شديدا. وتركه قليلا ثمّ قال له: يا هذا، هبك رددت الدرهم الذي ضربناه، ولم تحبّ أخذه من الرجل الغريب الذي وقف بك. فما بالك شتمته وشتمت الذي أمر بضربه؟

ولولا أنّ في تأديبك والتنكيل بك، وأنت شيخ كبير، ولعلّ وراءك من يتوقّعك ومادّته منك،


(١) الشمشك: من ملابس الرعاة (دوزي).
(٢) الركوة بالكسر: زورق صغير.

<<  <  ج: ص:  >  >>