للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فتناول منها جنّة قد زخرفت بنار، وليلة قد وشّمت بنهار، وروضة قد سقيت بأنها [ر] عقار، وعارض ذهب [٤٢٩ ب] قد أذيب يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ [النور: ٤٣]، فتعالى من ألان لداود الحديد، ولها (١) الذهب، وأيقظ به جدّ هذه الصناعة بعد أن نام بين الأنام، فهبّ، وأعلم الناس أنّ القلم في يد ابن البوّاب (٢) للضرب لا للطرب، وأنّ قيمة كلّ منها ومنه ما به في هذه الصناعة كثب، وجلاها بتمام البدور، وأعطاه ما أعطى أباه من المحاق، وأخّر زمانها وقدّم زمانه ورزقها السبق وحرمة اللحاق: فمن ألفات ألفت همزات غصونها حمائم، ومن لا مات بعدها يحسدها المحبّ على عناق قدودها النواعم، ومن صادات نقعت غلل القلوب الصوادي والعيون الحوائم، ومن واوات ذكرت ما في حيّة الأصداغ من العطفات، ومن ميمات دنت الأفواه من ثغورها لتنال جنى الرشفات، ومن سينات كأنّها التباشير في تلك الثغور، ومن دالات على الطاعة لكاتبها بانح [ن] اء الظهور، ومن جيمات كالمناسر تصيد القلوب التي تخفق لروعات الاستحسان كالطيور. وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: ٧١]، وخالد فيها خالد (٣)، وتحييه فيها المحامد، ويده تضرب في ذهب ذائب والحلق تضرب في حديد بارد. فهي اليد التي تنظم تيجان الملوك بدرّها، وتظهر آية الكرم على قراطيسها لما تظهره من تبرها. وما كنت قبل يدها أحسب أنّ سحابا يمطر نضارا، ولا أنّ ماء

يستمدّ (٤) نارا، ولا أنّ أقلامها سفكت دم المال فأجرته أنهارا، ولا قبل لحظها أنّ الشفق لا يشفق من طلوع الفجر، ولا أنّ لون اللوصل ينقضّ على لون الهجر، ولا أنّ الليل يتشبّت بعطف البرق فلا يريم، ولا أنّ ذهب الأصيل يجري به سواد الليل البهيم، ولا أنّ يدا كريمة تدّعي من آيات قلمها وكرمها أنّ الجلمود بها يقارن الجمود، وأنّ اليراعة تسترفد محلها (٥) على الظمأ فتشافه منهل النضارة المورود. وما كانت خطوط الفضلاء إلّا تجربة بين يدي تحريرها الآن، ولا أقلامها إلّا حطبا أو قدته علي الذهب فذاب لها ولان. ولا تحسب (٦) الخطّ إلّا بحبسها فغيّرت له أثواب الحداد، وجلت عرائس حروفه مضمّخة الأجساد بالجساد، وأطلعت إنسان عين الإحسان بدليل كونه لم يلمح إلّا في سواد، وسجد له والسجود فرضه لأنّه ثوب التيجان، وقبّله والتقبيل حقّه لأنّ الجفان تجاور منه حور الجنان. كيف لا يفضّل جوهرها بأن يفضّل، وتقابل حروفها بأن تقبّل، وقد كتب الناس باليد وكتب بالعين، وحصل الناس من هذه الصناعة بعد حرب حنين على خفّي حنين، وفازت بما أظهرت من ثروتها للنطارس (٧) النضار، وصحّت لها الكيمياء لأنّه كتب بشطر دينار سطرا بألف دينار، وإنّ له في نهارها، بل في أنهارها «سبحا طويلا» (٨)، وإنّها على خفّة وزنها وقلّة أسطرها لتكلّف من الشكر ثقيلا. وكيف لا يخفّ ميزان الثناء على أنهار رجّحته بذائب ذهب، وكيف يضلّ وفد الشكر وقد هدته بذوائب لهب، وقد نشره وطواه حتى كاد أن يحلقه، وأسام فيه


(١) ولها: أي لرسالة ابن القيسرانيّ: ألان الله لها الذهب كما ألان الحديد لداود.
(٢) ابن البوّاب الخطّاط المشهور (ت ٤٢٣): الأعلام ٥/ ١٨٣.
(٣) خالد هو المترجم، الذي وجّهت إليه هذه الرسالة.
(٤) استمدّ: طلب المداد، أي الحبر.
(٥) قراءة ظنيّة.
(٦) قراءة ظنيّة.
(٧) النطارس: لم نفهمها.
(٨) اقتباس من سورة المزمّل، ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>