اعد أنت خلفها! أنا شيخ ضعيف، كيف ألحقها؟
والفارس مع ذلك يضحك ضحكا شديدا، فبينما هما على هذه الحالة إذ أقبل العسكر والغلمان والخدم يطلبون الفارس. فلمّا رأى الشيخ الجيش قال: الحمد لله! أرجو أن يكون هذا الأمير قد وافى فأتظلّم إليه منك.
وتقدّم وصاح: أنا بالله وبالأمير!
فقالوا له: ما لك؟
فقال: أنا رجل فقير أشتري السنانير وأحملها إلى الرملة من مصر وأبيعها وأكسب فيها ما يكون ستري وستر عيالي. فلقيني الساعة بعض خدمكم، سفلة، قليل الدين، ظالم، الله بيني وبينه، فكسر قفصي وأطلق سنانيري.
فقالوا له: وأين هذا؟
فأشار بيده إلى الفارس، فقالوا له: اسكت يا شيخ، هذا هو الأمير أبو الجيش ابن طولون.
فلمّا سمع الشيخ مقالهم صاح: واخراب بيتي! ومرّ يعدو هاربا، فقال الأمير أبو الجيش: ردّوه عليّ!
فردّوه، فلمّا قرب منه، صاح: أيّها الأمير، الله فيّ! والله ما عرفتك. فاعذرني، وأنت في حلّ من السنانير وممّا جرى عليّ منك. فاعف عنّي، عفا الله عنك، ولا واخذك (١)، ولا عرّفك قبيحا!
وبكى، فلمّا سمع الأمير أبو الجيش قوله، قال: عفا الله عنك أيّها الشيخ- وكلّما دعا له الشيخ يقول الأمير: آمين ربّ العالمين، وبكى- وكان رقيق القلب إذا سمع شيئا فيه ذكر الوعظ، ثمّ قال له: لا بأس عليك ولا خوف. وقد عذرناك لأنّك ما عرفتنا وضحكنا منك وطابت نفسنا معك
وأنسنا بك في هذه المفازة، ألك عيال؟
قال: نعم، لي والدة مسنّة وزوجة وثلاثة بنين صغار وأربع بنات كبار، والاختلال قد عمّنا، وسوء الحال قد شملنا، وأنا أحمد الله على كلّ حال.
فقال له أبو الجيش: أحسنت أيّها الشيخ- ثمّ أمر له بألف دينار وقال له: هذا ثمن سنانيرك، أرضيت؟
فقال: والله إنّ عشرها يرضيني ويغنيني.
الصواب أن أقول: ما رضيت.
فقال له أبو الجيش: حقّك أن تقول: ما رضيت. يا غلام، إيش معك؟
قال: عشرة آلاف درهم.
قال: ادفعها إليه.
فقبّل الشيخ الأرض، وقال: والله العظيم، أيّها الأمير، ما قلت «ما رضيت» حقيقة، وإنّما قلت ذلك على جهة التعجّب؛ لأن بعض ما أعطيتني فيه برّي وصيانتي عن هذه الحالة، وقد أزالها الله، وله الحمد، ببركة الأمير أيّده الله، وإحسانه وإنعامه ومعروفه، شكر الله له، فقد سترني وستر حرمي وأولادي. والله لا قصّرنا ولا غفلنا عن الدعاء له في الليل والنهار بطول البقاء، وكفاية الأعداء.
وفي كرم الله جلّ اسمه ما يحبّب ذلك.
فقال أبو الجيش: أحسن الله جزاءك! ما نريد منك غير هذا، فلا تغفله!
ثمّ قال: اجلس، أيّها الشيخ- فجلس، وكتب له توقيعا بخطّه إلى عامل الرملة، نسخته: باسم الله الرحمن الرحيم، يصل توقيعنا هذا إليك، أسعدك الله، من يد شيخ قد حصلت له بنا حرمة وتجدّدت له منّا عناية حتّى صار في جملة خاصّتنا، ومن قرب من قلوبنا ونؤثر صلاحه
(١) أي: ولا آخذك.