للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وما زال عبد الرحمن بالشّام إلى أن ظهرت الدولة العبّاسية، وقتل من قتل من بني أميّة، وفرّ من نجا منهم، وكان عبد الرحمن بذات الزيتون (١) ففرّ منها إلى فلسطين فقدمها آخر سنة ستّ وثلاثين. وقيل إنّه عبر الفرات يشقّها عوما بذراعيه، ثمّ قطع الفلاة بمفرده. وأقام هو ومولاه بدر يتجسّس الأخبار. فحكي عنه أنه قال: لمّا أعطينا الأمان، ثم نكث بنا بنهر أبي فطرس (٢) وأبيحت دماؤنا، أتاني الخبر- وكنت منتبذا عن الناس- فرجعت إلى منزلي آيسا، ونظرت فيما يصلحني وأهلي، وخرجت خائفا حتى صرت إلى قرية على الفرات ذات شجر وغياض. فبينا أنا ذات يوم بها، وولدي سليمان يلعب بين يديّ- وهو يومئذ ابن أربع سنين- فخرج عنّي ثم دخل من باب البيت باكيا فزعا فتعلّق بي. وجعلت أدفعه وهو يتعلّق بي. فخرجت لأنظر، وإذا بالخوف قد نزل بالقرية، وإذا بالرايات السود منحطّة عليها، وأخ لي حدث السنّ يقول لي: النجاة! فهذه رايات المسوّدة.

فأخذت دنانير معي ونجوت بنفسي وأخي، وأعلمت أخواتي بمتوجّهي وأمرتهنّ أن يلحقنني مولاي بدرا. وأحاطت الخيل بالقرية فلم يجدوا لي أثرا. فأتيت رجلا من معارفي وأمرته فاشترى لي دوابّ وما يصلحني. فدلّ عليّ عبد له العامل فأقبل في خيله يطلبني، فخرجنا على أرجلنا هرابا والخيل تبصرنا فدخلنا في بساتين على الفرات فسبقنا الخيل إلى الفرات فسبحنا. أمّا أنا فنجوت،

والخيل ينادوننا بالأمان ولا أرجع. وأمّا أخي فإنّه عجز عن السباحة [٥٣ ب] في نصف الفرات فرجع إليهم بالأمان فأخذوه فقتلوه وأنا انظر إليه، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فاحتملت فيه ثكلا آخر.

ومضيت لوجهي فتواريت في غيضة أشبة حتى انقطع الطلب عنّي وخرجت فقصدت المغرب.

وقدم مصر ثم صار منها إلى أرض برقة فأقام بها خمس سنين. ثم رحل من برقة يريد الأندلس.

ثم إنّ أخته أمّ الأصبغ بعثت إليه مولاه أبا الغصن بدرا، ومعه نفقة له وجوهر. فبلغ عبد الرحمن إفريقيّة، وعليها عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري متولّي إفريقيّة من قبل مروان. فظنّ عبد الرحمن أنّه يرعاه ويحسن مجاورته. فلمّا علم ابن حبيب بقتل مروان كتب إلى أبي العبّاس السفّاح بالسّمع والطّاعة، وأراد قتل عبد الرحمن بن معاوية تقرّبا إلى بني العبّاس. فهرب منه إلى مكناسة من قبائل البربر فلقي عندهم شدّة. ثم هرب من عندهم فأتى نفزاوة وهم أخواله- لأنّ أمّه كانت بربرية منهم سبيت في غزاة إفريقيّة- ومعه مولاه بدر. فأحسنوا إليه. فاطمأن فيهم وأخذ في التدبير ومكاتبة أهل الأندلس من موالي بني أميّة يعلمهم بقدومه ويدعوهم إلى نفسه. ووجّه مولاه بدرا إليهم.

وكان أمير الأندلس إذ ذاك أبو زيد يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن نافع الفهري. فأخذ بدر يتجسّس عن الخبر، فرأى القوم وبأسهم، وكانوا يمانيّة ومضريّة يقتتلون على العصبيّة. فقال للمضريّة: لو وجدتم رجلا من أهل بيت الخلافة، أكنتم تبايعونه وتقومون به؟

فقالوا: وكيف لنا بذلك؟

فقال بدر: هذا عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك- ودعاهم إليه فأجابوه.


(١) الزيتونة عند ياقوت: موضع ببادية الشّام كان ينزله هشام بن عبد الملك قبل أن يعمّر الرصافة.
(٢) أبي فطرس: قرب الرملة، وبه أوقع عبد الله بن علي بن عبد الله بن العبّاس بالأمويّين فقتلهم سنة ١٣٢ (ياقوت ٤/ ٢٦٧ و ٥/ ٣١٥، وانظر الكامل ٤/ ٣٦٢ أو ٥/ ٤٢٥ وقال المقريزي ج ٣/ ٤٦٣ ويعرف اليوم بالطواحين.

<<  <  ج: ص:  >  >>