للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ابن الخلائف الراشدين والسادات الأكرمين، إليك فررت وبك عذت من زمن ظلوم ودهر غشوم قلّل المال وشعّت الحال وصيّر إلي نداك المآل. فأنت وليّ الحمد وربّي المجد المرجوّ للرّفد.

فقال له مسرعا: قد سمعنا مقالتك وقضينا حاجتك وأمرنا بعونك على دهرك، على كرهنا لسوء مقالك. فلا تعودنّ- ولا سواك- لمثله من إراقة ماء [٥٥ ب] وجهك بتصريح المسألة والإلحاف في الطلبة. وإذا ألمّ بك خطب أو حزبك أمر فارفع إلينا في رقعة كيما تستر عليك خللك وتكفّ شماتة العدوّ عنك بعد رفعها إلى مالكنا ومالكك عزّ وجهه بإخلاص الدعاء وحسن النيّة.

وأمر له بجائزة حسنة. فخرج الناس يعجبون من حسن منطقه. وكان معاوية بن صالح يتناوب خطّة القضاء للأمير عبد الرحمن هو وعبد الرحمن بن طريف على قرطبة، فأبطأت على معاوية في بعض السّنين فقلق وكتب إلى الأمير يستعيدها ويذكّره وجوبها، فلهي عنه، وأمضي ابن طريف على حاله. فأعاد معاوية الكتاب إليه، فعاتبه الأمير عبد الرحمن وقال: مثلك يستحثّ في عمل طالما لاذ الصالحون منه وفرّوا عنه.

فكان من عذره: فإن كنت سألتك الولاية فقد سألها من كان ظلّه في الأرض خيرا منّي، وذاك يوسف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قول الله تعالى عنه: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف، ٥٥].

وكان ابن طريف عادلا صالحا ورعا، إذا شغل عن القضاء يوما لم يأخذ لذلك اليوم أجرا.

ومن شعر الأمير عبد الرحمن، وقد رأى نخلة بالأندلس في الرصافة التي بناها فقال [الطويل]:

تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النّخل

فقلت: شبيهي في التغرّب والنوى ... وطول اكتئابي عن بنيّ وعن أهلي

نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

سقتك غوادي المزن من صوبها اللذي ... يسحّ ويستمري السماكين بالوبل

ويذكر أنّه نزل وهو متوجّه في مبدإ أمره بقوم يقال لهم بنو ماسين فأقام عندهم وقال للّذي كان عنده: إن سمعت بأوّل وال ولي الأندلس فارحل إليه-. فلمّا تمّ أمره أتاه الرجل فأقام ببابه مدّة لا يصل إليه حتى ركب عبد الرحمن ذات يوم، فعرض له من بعد، فعرفه ووكّل به من أحضره عنده. وسأله عن أهله وعياله وأمره بطلب ما يريد. فقال: تهب لي غلاما وجارية يرعيان علينا.

فقال: نعطيك عشرة من الغلمان وعشرا من الجواري!

ثمّ أنزله وأكرمه وبعث في إحضار أهله فلم يشعر البربريّ إلّا بأهله وولده وجميع حشمه عنده، فوسّع عليهم عبد الرحمن وغمرهم بفضله.

وكان أبو جعفر المنصور يثني على عبد الرحمن ويقول: ذاك صقر قريش [٥٦ أ] دخل المغرب، وقد قتل قومه، فلم يزل يضرب العدنانيّة بالقحطانيّة، ويكبس القحطانيّة بالعدنانيّة حتى ملك.

وكان يدعو لأبي جعفر على المنابر حتى قدم عليه عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم.

فلمّا حضر معه الجمعة وسمع الدعاء لأبي جعفر، أنكره. وقال: إنّ من الحلم لجهلا! وأي هوادة بيننا وبين هؤلاء؟ عدوا علينا فلم يرقبوا فينا إلّا ولا ذمّة واستحلّوا منّا كلّ حرمة وأخرجونا من أرض

<<  <  ج: ص:  >  >>