للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ولم يزل عبد الرحمن مظفّرا إلى أن توفّي يوم الثلاثاء لستّ بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين ومائة (١)، وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة أشهر، بقرطبة، وصلّى عليه ابنه عبد الله وأخذ البيعة لأخيه هشام، وكان غائبا.

وقيل: مات وسنّه ( ... ) وستّون سنة. وكانت إمارته ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوما، بعد ما قطع القفر، وركب البحر، ودخل بلدا أعجميّا وهو وحده فغلب عامله، ومصّر الأمصار وجنّد الأجناد ودوّن الدواوين وأقام ملكا بحسن تدبيره وشدّة شكيمته. فولي بعده ابنه هشام بن عبد الرحمن.

وكان أصهب خفيف العارضين طويل القامة نحيف الجسم [٥٥ أ] سناطا (٢) أعور، له ظفيرتان وبوجهه خال. وكان أخشم لا يشمّ شيئا (٣).

وكان شديد البأس سريع الغضب سريع النهضة في طلب الخارجين عليه، لا يخلد إلى راحة، شديد الحذر.

وكان نقش خاتمه: بالله يثق عبد الرحمن وبه يعتصم (٤). وكان فصيحا لسنا شاعرا حليما عالما حازما ورعا سخيّا جوادا، يكثر لبس البياض.

وكان يقاس بأبي جعفر المنصور في حزمه وشدّته وضبط المملكة. ووافقه في أشياء: منها أنّ كلّا منهما أمّه بربريّة. وكان الناس يقولون: ملك

الأرض ابنا بربريّة، يعنون عبد الرحمن والمنصور، وذلك أنّ أمّ المنصور سلامة البربريّة، وأمّ عبد الرحمن راح البربريّة.

ومنها أنّ المنصور قتل ابن أخيه السفّاح، وقتل عبد الرحمن ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية.

وهو الذي بنى الرصافة بقرطبة تشبّها برصافة جدّه هشام بن عبد الملك بدمشق.

وكان عبد الرحمن لمّا سار يريد قرطبة في ابتداء أمره قيل له: «كيف تسير بلا لواء؟ » فأتى بقناة وأرادوا إمالتها ليعقد عليها، فأبى أن يميلها كراهة الطيرة وعمد إلى شجرتين بين زيتون متجاورتين فركز القناة بينهما ثم أطلع أبا عثمان فعقد اللواء على القناة وسار به فلم يزل هذا اللواء على تلك القناة عند خلفاء بني أميّة بالأندلس يتباركون به. وإذا أرادوا عقد لواء عقدوه على هذه القناة، إلى أن كانت آخر أيّام عبد الرحمن بن الحكم بن هشام، فأراد الوزراء عقد لواء فأحضروا القناة فإذا عليها عقدة خلقة فلم يدروا ما هي فأنفوا منها وألقوها عن القناة. فبلغ ذلك شيخ الوزراء الوزير جهور بن يوسف فشقّ عليه فعلهم وقال:

إنّما تركت للتبرّك بها- وتطلّبها فلم توجد. ومن حينئذ دخل الوهن في مملكة بني أميّة حتى زالت وانقرضت.

والأمير عبد الرحمن أوّل من رتّب الحجابة بالأندلس. وكان حاجبه تمّام بن علقمة. ولم يكن له وزير وإنّما كان له أهل مشورة.

وكان على قضائه يحيى بن يزيد التّجيبي ثم معاوية بن صالح الحضرميّ وعمر بن شراحيل، وعبد الرحمن بن طريف اليحصبيّ.

وقصده رجل فمثل بين يديه يستجديه وقال: يا


(١) (وقيل في غرّة جمادى الأولى سنة ١٧٢ - وهو الصحيح-). النّويري ٢٣/ ٣٥٠. وكذلك الكامل ٥/ ٨٣.
(٢) سناط بالضمّ والكسر وسنوط: لا لحية له. وسنط الرجل على وزن كرم وفرح.
(٣) هذه الأوصاف الجسمانيّة لا توجد في الكامل ولا في نهاية الأرب، ولكنّ المقريّ ذكرها نفح ٣/ ٨٥ أو ١/ ٣٣٢.
(٤) في البيان، ٢/ ٦٤: عبد الرحمن بقضاء الله راض.

<<  <  ج: ص:  >  >>