وذكر أنّ أبا مسلم لمّا قدم الأنبار أراد عيسى بن موسى على خلع المنصور ومخالفته وقال له: أنت وصيّ الإمام، وأحقّ بالأمر من أبي جعفر.
فقال له: الأمر لعمّي، ولو قدّمني أبو العبّاس لقدّمته على نفسي!
وقال ابن الأعرابيّ عن المفضّل الضبّي: أتت أبا مسلم وفاة أبي العبّاس، ولم يعلم أنّه قد ولّى أبا جعفر المنصور الخلافة بعده. فكتب إلى المنصور: عافاك الله وأمتع بك! أتاني خبر وفاة أمير المؤمنين رحمه الله، فبلغ منّي أعظم مبلغ وأمسّه وجعا وألما. فأعظم الله أجرك وجبر مصيبتك، ورحم الله أمير المؤمنين وغفر له وجزاه [٨٨ أ] بأحسن ما عمله!
فلمّا قرأ كتابه استشاط غضبا وكتب إليه: من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الرحمن: وصل كتابك فرأيتك غير موفّق فيه للرشد، ولا مسدّد للصواب. ولكنّي ذكرت ما تقدّم من طاعتك فعطفني عليك. وقد ولّيتك مقدّمتي، فسر على اسم الله وبركته حتى توافي الأنبار. ومن أنكرت من أمره شيئا من عمّالنا، فصرفه والاستبدال به إليك.
فحقد كلّ واحد منهما على صاحبه.
قال ابن الأعرابيّ: وحدّثني سعد بن الحسن أنّ المنصور لمّا قرأ كتابه أجابه عليه، وقد استشاط، فقال لعطيّة بن عبد الرحمن البجليّ: لمثلها كنت أحسّيك الحسى. إنّ العبد كتب إليّ بما ترى، وقد أجبته. فانطلق بالكتاب إليه، فإذا أخذ في قراءته فاضرب عنقه! فإن قتلت فشهادة، والله خليفتك على من تخلّف، وهو عندي عدل ولدي، وجرايتي عليه. وإن سلمت فلك من المكافأة ما يطأ به العرب عقبك.
فقال له إسحاق بن مسلم: يا أمير المؤمنين، إنّه لا يؤمن أن ينبو سيفه فيقتل باطلا ثم يكرّ العلج علينا.
وقال له مزيد بن أسيد: اذكر قول القطاميّ [البسيط]:
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقال له أبو أيّوب كاتبه: أجر الأمر حتّى يقدم عليك شيعتك وأهل بيتك.
فأنفذ المنصور كتابه مع غير عطيّة.
وذلك أنّه لمّا بلغ أبا مسلم موت أبي العبّاس كتب به إلى أبي جعفر، وهو لا يعلم باستخلافه إيّاه. فلمّا أتاه أنّه قد استخلفه كتب إليه: أصلحك الله يا أمير المؤمنين صلاحا تامّا ناميا. بلغني هذا الأمر الذي أقطعني وأتاني به كتاب عيسى بن موسى مع محمد بن الحضين. إلّا أنّه سرّى عنّي الغمّ ولوعة المصيبة ما صار إليك من الأمر.
فنسأل الله أن يعظم أجرك ويحسن الخلافة عليك فيما ولّاك، وأن يبارك لك فيما قلّدته. اعلم أنّه ليس أحد يا أمير المؤمنين أشدّ تعظيما لحقّك وحرصا على مسرّتك منّي. والله أسأل لك السلامة في الدين والدنيا.
وكان ورود الكتاب عليه بصفينة (١*). ثم بعث أبو مسلم بالبيعة بعد يومين، وإنّما أراد أن يرهبه.
ولمّا توفّي أبو العبّاس قام عيسى بن عليّ فخطب الناس بالأنبار فقال: الحمد لله أهل الحمد ووليّه، ذي المجد والعظمة، والكبرياء والقدرة، الذي كتب الموت على خلقه وسوّى فيه بين عباده فلم يعرّ منه [٨٨ ب] ملكا مقرّبا، ولا نبيّا مرسلا،
(١*) صفينة: بلد بالعالية من ديار بني سليم (ياقوت).