وقال ابن الأعرابيّ: لقيت امرأة أعرابيّة أبا جعفر المنصور في طريقه، وقد توفّي أبو العبّاس، والمنصور مقبل إلى الأنبار فقالت: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في أخيك، فإنّه لا مصيبة أعظم من مصيبتك، ولا عوض أفضل من خلافتك.
فقال: بلى! الأجر!
فقالت: هو لك مذخور إن شاء الله!
فوهب لها ألف درهم.
وقال المدائنيّ: حجّ مع [٩٠ أ] المنصور إسحاق ابن مسلم العقيليّ وكان عديله. فقال المنصور ذات يوم: لقد أبطأنا عن الحجّ، وإنّي لأخاف فوته.
فقال إسحاق، وكان فيه جفاء: اكتب في تأخير الحجّ إلى قدومك!
قال: ويحك! أو يكون أن يؤخّر الحجّ عن وقته؟
فقال: أو تريدون شيئا فلا يكون؟
(قال) وكان المنصور يقول: الملوك تحتمل كلّ شيء إلّا ثلاث خلال: إفشاء السرّ، والتعرّض للحرم، والقدح في الملك.
وقال عن إسحاق بن مسلم العقيليّ: حججت مع أبي جعفر فقال: قل للحادي: احد!
فقلت: «يا عاصم، احد» فحدا. فقال: «قل له: قد أمر لك أمير المؤمنين بألفي درهم». فدعا له. ثم قال: احد أيضا- فأعاد فأجاد. فقال: قل له: قد أمر لك أمير المؤمنين بكسوة» فدعا له.
فقال: «احد أيضا». فحدا فأجاد. فقال: «قل له:
قد أمر لك أمير المؤمنين بخادم». فقلت له، فقال لي مسرّا لقوله: «بأبي أنت! فلعلّه موعوك؟ » فأعطى ذلك الذي أمر له به. وقال المسيّب:
«جرى عند المنصور ذكر أبي مسلم وما كان من مداراته إيّاه، فقال: إذا مدّ عدوّك إليك يده، فإن أمكن أن تقطعها، وإلّا فقبّلها.
وكان أبو الجهم بن عطيّة مولى باهلة من أعظم الدعاة قدرا وأعظمهم غناء، وهو الذي أخرج أبا العبّاس السفّاح من موضعه الذي أخفاه أبو سلمة الخلّال فيه، وحرسه، وقام بأمره حتّى بويع بالخلافة. وكان أبو العبّاس يعرف ذلك. وكان أبو مسلم يثق به ويكاتبه من خراسان ويأمره أنيكاتبه بالأخبار. فلمّا استخلف أبو جعفر بلغه أنّه يكتب إلى أبي مسلم بخبره وأنّه قال: ما على هذا بايعناهم! إنّما بايعناهم على العدل.
فدعاه ذات يوم، فتغدّى عنده، ثمّ سقي شربة عسل- وقيل: سويق لوز- فلمّا وقعت في جوفه هاج به وجع، فتوهّم أنّه قد سمّ، فوثب. فقال له المنصور: إلى أين يا أبا الجهم؟
فقال: إلى حيث أرسلتني.
ومات بعد يوم أو يومين فقال الشاعر [الطويل]:
[ألا] احذر سويق اللوز لا تشربنّه ... فشرب سويق اللوز أردى أبا الجهم!
وأهديت إلى ولد المنصور حملان بربريّة، فقال لقهرمانه: خذها إليك فاذبح لنا كلّ يوم منها حملا، فإنّ الصّبيان يكتفون بالصّعو (١*).
وقال لعيسى بن عبد الله النوفليّ لمّا مات أبو العبّاس: قد عرفتني في السلطان وقبله، فهل رأيت لي لذّة في مطعم أو مركب أو ملبس؟ ولقد أتتني الخلافة وما طلبتها. [٩٠ ب]
فقال له: ما زلت والله أعرفك بالزهد والفضل وطلب العلم.
(١*) الصّعو: صغار العصافير.