فقال: يا أمير المؤمنين، والله لو قلّدتني الأمّة اختيار إمام لها ما وجدته، فكيف أجيب محمّدا وأبايعه؟ لقد كتب إليّ فما أجبته.
فقال: صدقت يا أبا عثمان وبررت.
فلمّا ولّى قال: من مثلك يا عمرو؟
وقدم المهديّ من خراسان، فبنى بامرأته ريطة بنت عمّه أبي العباس بالحيرة في شهر رمضان سنة أربع وأربعين. وحجّ مع المنصور في هذه السنة، فدعا المنصور عمرو بن عبيد- وقد حجّ أيضا- وأكرمه، وسأله أن يعظه، فوعظه. وقضى عمرو حجّته وانصرف فمات في طريقه في آخر السنة.
فقال المنصور لمّا بلغه موته: يرحم الله عمرا! هيهات أن يرى مثل عمرو!
وقال الهيثم بن عديّ: لمّا بايع المنصور للمهديّ، كتب إلى عمرو بن عبيد كتابا لطيفا يستزيره فيه، وكتب إلى عامله على البصرة في إشخاصه مكرّما. فلمّا صار إليه بالكوفة ودخل عليه استدناه وقال: كيف كنت بعدي أبا عثمان؟
فقال: أحمد الله وأذمّ عملي.
فتغرغرت عينا المنصور. ثم قال له: عظني يا أبا عثمان!
[١٠١ أب] فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها، واعلم أنّ الأمر الذي صار إليك، لو بقي لمن قبلك، لم يصل إليك. واعلم أنّك أوّل خليفة يموت فاحذر يا أمير المؤمنين ليلة صبيحتها القيامة، ليلة يتمخض [ ... ] الفزع الأكبر. إنّ الله يقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ [الفجر: ٦ - ٧] إلى قوله: «لبالمرصاد». ثمّ قال: هذا تخويف لمن سلك جادّتهم واتبع آثارهم.
فبكى المنصور ونزل عن فرشه ثمّ سكن فقال:
«يا أبا عثمان، ناولني هذه الدواة! » فأبى أن يناوله، فقال له: والله لتناولنّها!
فقال: والله، لا ناولتك إيّاها!
فقال له المهديّ، وكان حاضرا: يحلف عليك أمير المؤمنين، فترادّه باليمين؟
فقال: إنّ أمير المؤمنين أقدر على الكفّارة منّي. (ثمّ قال: ) من هذا الفتى يا أمير المؤمنين؟
فقال: هذا ابن أخيك، هذا محمد المهديّ وليّ عهد المسلمين.
فقال: أرى شبابا وجمالا ونشاطا. وقد رشّحته لأمر يصير إليه إن صار، وأنت عنه في شغل، وقد وطّأت له الدنيا وأنت منتقل عنها إلى الآخرة.
فهناك الحساب! إنّ الله جعلك فوق كلّ أحد فلا ترض أن يكون فوقك في طاعته أحد!
ثم سكت عمرو. فقال المنصور: سلني حوائجك.
فقال: حاجتي ألّا تبعث إليّ حتّى أجيئك ولا تعطيني شيئا حتى أسألك.
ثم نفض ثوبه وقام. فأتبعه المنصور بصره وقال: شغل والله الرجل بما هو فيه عمّا نحن فيه.
وقال: [الرمل]:
كلّهم طالب صيد ... وهو ذو مشي رويد
غير عمرو بن عبيد
ودخل عمرو بن عبيد مرّة على المنصور، وعليه طيلسان مخرّق، فأخذ المنصور طيلسانا كان عليه طبريّا فألقاه فوق ظهره، وقال له: «عظني! ».
فوعظه حتى بكى. ثم قال له: سلني حوائجك.
قال: أوّلها أن تأمر برفع الطيلسان عنّي. وألّا تعطيني شيئا حتى أسألك. ولا تبعث إليّ حتى