أجيئك، فإنّه إن جمعني وإيّاك بلد صرت إليك فيه.
ثمّ مضى.
وعن أبي زيد الأنصاري قال: مشى شبيب بن شبيبة ونفر معه إلى عمرو بن عبيد فقالوا: يا أبا عثمان، إنّ أمير المؤمنين المنصور قدم، ولا نراه قدم إلّا لمكانك لينظر فيما بلغه من كتاب محمد إليك، فتنحّ!
فأطرق، ثمّ قال: لا يكون والله ذاك حتى أقوم بما يجب لله عليّ.
فقال المنصور لعمرو: أبايعت محمد بن عبد الله؟
فقال: لو قلّدتني الأمّة أن أختار لها رجلا ما وجدته. فكيف أبايع محمدا؟
وكتب المنصور إلى عمرو كتابا على لسان محمد. فلمّا قرأه خرّقه. فطلب الرسول [١٠٢ أ] الجواب فلم يجبه، فألحّ الرسول عليه فقال:
دعونا نشرب الماء البارد وننتقل في هذا الظلّ إلى أن يأتي الموت!
فقال المنصور: هذا ثغر قد أمنّاه.
وقال الربيع: دخل عمرو بن عبيد على المنصور. فدخل رجل حسن الأدب كأنّما لم يزل مع الملوك. فأجلسه المنصور إلى جانبه، فأبى أن يجلس إلّا بين يديه. ثمّ قال له: إنّ الله واقفك وسائلك عن مثاقيل الذرّ من الخير والشرّ، وإنّ أمّة محمد خصماؤك يوم القيامة، وإنّك لا ترضى نفسك إلّا بأن يعدل عليك، وإنّ الله لا يرضى منك إلّا بالعدل على رعيّتك. يا أمير المؤمنين، إنّ على بابك نيرانا تأجّج من الجور.
فبكى المنصور ونشج. فقال سليمان بن مجالد: يا عمرو، قد شققت على أمير المؤمنين!
فقال عمرو: ويحك! إنّ أمير المؤمنين ميّت ومخلّ ما في يديه من هذه الدنيا ومرتهن بعمله.
وأنت غدا جيفة بالعراء لا تغني عنه شيئا، ولقرب هذا الجدار منه خير له من قربك. يا أمير المؤمنين، إنّ هؤلاء اتخذوك سلّما إلى درك إرادتهم وصفاء دنياهم لهم وكلّهم يوقد عليك.
قال: فكيف أصنع يا أبا عثمان؟ ادع إليّ أصحابك أستعملهم!
قال: ادعهم أنت واطرد هؤلاء الشياطين عن بابك! فإنّ أهل الدين لا يأتون بابك، وهؤلاء يحيطون بك، لأنّهم إن باينوهم فلم يعملوا بأهوائهم أرّشوك (١*) بهم وحملوك عليهم. والله لئن رآك عمّالك لا تقبل منهم إلّا العدل ليتقرّبنّ إليك به من لا نيّة له فيه!
وعن أبي زيد قال: قدم المنصور البصرة قبل الخلافة. فقال عمرو بن عبيد لبحر بن كنيز السقّاء: قد قدم هذا الرجل، وكان لنا زوّارا إذا [١٠٢ ب] قدم بلدنا، فامض بنا إليه!
فأتياه. فلمّا وقفا ببابه نادى عمرو: «يا جارية! » فأجابته جارية، فقال: قولي لأبي جعفر: «أبو الفضل وأبو عثمان». فأذن لهما فدخلا عليه فإذا هو على مصلّى مخلق دارس، وإذا بين يديه طبق عليه قصعة فيها مرق لا لحم فيه. فقال: يا جارية، أعندك شيء تزيديناه؟
قالت: لا.
قال: فعندك درهم يشترى به فاكهة لأبي عثمان؟
قالت: لا.
قال: ارفعي! عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: ١٢٩].
(١*) أرشه وأرّشه به: أغراه وحرّضه عليه.