للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

له عنده صاحب البريد يكاتبه بالأخبار. فاستشار المأمون خواصّه وقوّاده في ذلك، فأشاروا عليه باحتمال ذلك والإجابة إليه خوفا من شرّ هو أعظم منه. فقال لهم الفضل بن سهل: أتعلمون أنّ الأمين طلب ما ليس له؟

قالوا: نعم، ونحتمل هذا لضرر منعه.

قال: فإن فعل غيرها فما ترون؟

قالوا: نمنعه.

قال: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء:

فإنّهم إنّما قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من مكروه في يومك ولا تلتمس هدية (١) يومك بخطر أدخلته على نفسك في غدك.

فقال المأمون لذي الرئاستين: فما تقول أنت؟

قال: أسعدك الله، هل تأمن أن يكون الأمين قد طالبك بفضل قومك ليظهر بهم عليك؟ بل إنّما أشار الحكماء بحمل ثقل يرجون به صلاح العاقبة.

فقال المأمون: بإيثار دعة العاجل صار من صار إلى فساد العاقبة في دنياه وآخرته.

وامتنع المأمون من إجابته إلى ما طلب. وأنفذ ثقاته إلى حدّ أعماله وأمرهم أن لا يمكّنوا أحدا من العبور إلى بلاده إلّا مع ثقة من ناحيته. فضبط الطرق بثقات أصحابه، فلم يمكّنوا من دخول خراسان إلّا من عرفوه وأتى بجواز أو كان تاجرا معروفا.

وقيل: لمّا أراد الأمين أن يكتب إلى المأمون يطلب بعض كور خراسان قال له إسماعيل بن صبيح: «يا أمير المؤمنين، إنّ هذا ممّا [١١٧ أ]

يقوّي التهمة وينبّه على الحذر. ولكن اكتب إليه فأعلمه حاجتك إليه وما تحبّ من قربه والاستعانة على ما ولّاك الله، وتسأله القدوم عليك لترجع إلى رأيه فيما تفعل». فكتب إليه بذلك وسيّر الكتاب مع نفر وأمرهم أن يبلغوا الجهد في إحضاره.

وسيّر معهم الهدايا الكثيرة. فلمّا حضر الرسول عنده وقرأ الكتاب، استشار فأشير عليه بملازمة خراسان، وخوّف من القرب من الأمين. فقال: لا يمكنني مخالفته وأكثر القوّاد والأموال معه، والناس ما يلوون إلّا على الدرهم والدينار لا يرغبون في حفظ عهد ولا أمانة. ولست في قوّة حتى أمتنع، وقد فارق جبغويه الطاعة، والتوى خاقان ملك التبّت، وملك كابل قد استعدّ للغارة على ما يليه، وملك أتراربندة قد منع الضريبة، وما لي بواحد من هذه (١*) الأمور يد، ولا أرى إلّا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به، لعلّي آمن على نفسي.

فقال ذو الرئاستين: إنّ عاقبة الغدر وخيمة، وتبعة الغدر غير مأمونة. وربّ مقهور قد عاد قاهرا، وليس النصر بالكثرة والقلّة، والموت أيسر من الذلّ والضيم. وما أرى أن تصير إلى أخيك متجرّدا من قوّادك وجندك كالرأس الذي فارق بدنه فتكون عنده كبعض رعيّته يجري عليك حكمه من غير أن تبلي عذرا في قتال. فاكتب إلى جبغويه وخاقان فولّهما بلادهما، وابعث إلى ملك كابل ووادعه، واترك لملك اتراربندة ضريبته. ثمّ اجمع أطرافك وضمّ جندك واضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال. فإن ظفرت، وإلّا لحقت بخاقان.

فعرف المأمون صدقه وفعل ما أشار به. فرضي أولائك الملوك العصاة. وضمّ جنده وجمعهم عنده. وكتب إلى الأمين: أمّا بعد، فقد وصل


(١) الهدية بتثليث الأوّل: الطريقة والجهة والشأن. ولعلّها:
هدنة بالنون. وانظر الطبريّ ٣/ ٧٨١.
(١*) في المخطوط: من هذا.

<<  <  ج: ص:  >  >>