للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

كتاب أمير المؤمنين، وإنّما أنا عامل من عمّاله وعون من أعوانه، أمرني الرشيد بلزوم هذا الثغر، ولعمري إنّ مقامي به أردّ عن أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطا بقربه مسرورا بمشاهدة نعمة الله عنده. فإن رأى أمير المؤمنين أن يقرّني على عملي ويعفيني من الشخوص، فعل أن شاء الله.

فلما قرأ الأمين كتابه علم أنّه لا يتابعه على ما يريده. فكتب إليه يسأله أن ينزل له عن بعض كور خراسان. فلمّا امتنع من إجابته إلى ذلك أرسل جماعة ليناظروه في منع ما طلب منه. فلمّا وصلوا إلى الريّ منعوا ووجدوا تدبيره محكما وحفظوا [١١٧ ب] في حال سفرهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكانوا معدّين لوضع الأخبار في العامّة فلم يمكنهم ذلك. فلمّا رجعوا أخبروا الأمين بما رأوا.

وقيل إنّ الأمين لمّا عزم على خلع المأمون وزيّن له ذلك الفضل وابن ماهان دعا يحيى بن سليم وشاوره في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، كيف نفعل ذلك مع ما أكّده الرشيد من بيعته وأخذ الشرائط والأيمان في الكتاب الذي كتبه؟

فقال الأمين: إنّ رأي الرشيد كان فلتة شبّهها عليه جعفر بن يحيى. فلا ينفعنا ما نحن فيه إلّا بقلعه واجتثاثه.

فقال يحيى: إذا كان رأي أمير المؤمنين خلعه فلا يجاهده فيستنكر الناس ذلك. ولكن يستدعي أمير المؤمنين الجند بعد الجند والقائد بعد القائد ويؤنسه بالألطاف والهدايا، ويفرّق ثقاته ومن معه ويرغّبهم بالأموال. فإذا وهّيت قوّته واستفرغت رجاله أمرته بالقدوم عليك. فإن قدم صار الذي نريد منه. وإن أبى كنت قد تناولته وقد كلّ حدّه.

فقال الأمين: أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي مصيب، قم فالحق بمدادك وأقلامك! (١*)

وكان ذو الرئاستين قد اتّخذ قوما ببغداد يكاتبونه بالأخبار. وكان الفضل بن الربيع قد حفظ الطرق، فكان أحد أولئك النفر إذا كاتب ذا الرئاستين بما تجدّد ببغداد، سيّر الكتاب مع امرأة وجعل الكتاب في عود أكاف (٢*) فتسير كالمجتازة من قرية إلى قرية. فلمّا ألحّ الفضل بن الربيع في خلع المأمون أجابه الأمين إلى ذلك وبايع لولده موسى في صفر- وقيل في ربيع الأوّل- سنة خمس وتسعين ومائة، وسمّاه «الناطق بالحقّ». ونهى عن ذكر المأمون والمؤتمن على المنابر، وأرسل إلى الكعبة بعض الحجبة فأتاه بالكتابين الذين وضعهما الرشيد في الكعبة ببيعة الأمين والمأمون، فمزّقهما الفضل. فلمّا بلغ المأمون ذلك قال: هذه أمور أخبر الرأي عنها، وكفانا أن نكون مع الحقّ.

فكان أوّل ما دبّره ذو الرئاستين حين بلغهم هذا الخبر أن جمع الأجناد الذين اتّخذهم بجنبات الريّ مع الأجناد الذين بها، وأمدّهم بالأقوات وغيرها، وكانت البلاد عندهم قد أجدبت، وأكثر عندهم ما يريدونه حتى صاروا في أرغد عيش. وأقاموا بالحدّ ما يتجاوزونه. ثم أرسل إليهم طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعيّ أميرا في عدّة من قوّاده وأجناده، فسار مجدّا حتّى ورد الريّ، فنزلها [١١٨ أ] ووضع المسالح والمراصد.

ووجّه الأمين عصمة بن حمّاد إلى همذان في ألف رجل ليقيم بها. وأخذ الفضل بن الربيع وعليّ بن عيسى بن ماهان يغريانه بحرب المأمون، فأمر ابن ماهان بالمسير لحربه. وسبب تعيينه ذلك أنّ ذا الرئاستين كان له عين عند الفضل بن الربيع


(١*) كان يحيى بن سليم كاتبا للأمين بوصيّة هارون الرشيد:
الجهشياري: الوزراء والكتّاب ٢٦٦.
(٢*) الأكاف: البرذعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>