عجيف بن عنبسة، إذ طلع رجل متحنّط متكفّن.
فلمّا عاينه المأمون وقف. ثم التفت إلى عجيف فقال: ويحك! أما ترى صاحب الكفن مقبلا يريدني؟
فقال له عجيف: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين.
فما [١٣١ أ] كرب الرجل أن وقف على المأمون، فقال له المأمون: من أردت يا صاحب الكفن، وإلى من قصدت؟
قال: إيّاك أردت.
قال: أو عرفتني؟
قال: لو لم أعرفك ما قصدتك.
قال: أفلا سلّمت عليّ؟
قال: لا أرى السلام عليك.
قال: ولم؟
قال: لإفسادك علينا الغزاة.
(قال عجيف: ) وأنا ألين مسّ سيفي لئلّا يبطئ ضرب عنقه، إذ التفت المأمون فقال: يا عجيف، إنّي جائع، ولا رأي لجائع، فخذه إليك حتّى أتغدّى وأدعو به.
فتناوله عجيف فوضعه بين يديه. فلمّا صار المأمون إلى رحله دعا بالطعام. فلمّا وضع بين يديه أمر برفعه وقال: والله لا أسيغه حتّى أناظر خصمي. يا عجيف، عليّ بصاحب الكفن!
فلمّا جلس بين يديه قال: هيه! يا صاحب الكفن، ماذا قلت؟
قال: قلت: لا أرى السلام عليك لإفسادك الغزاة علينا.
قال: بماذا أفسدتها؟
قال: بإطلاقك الخمور تباع في عسكرك، وقد حرّمها الله في كتابه. فابدأ بعسكرك ثمّ اقصد الغزو! بماذا استحللت أن تبيع شيئا قد حرّمه الله كهيئة ما أحلّ الله؟
قال: أو عرفت الخمر أنّها تباع ظاهرا ورأيتها؟
قال: لو لم أرها وتصحّ عندي ما وقفت هذا الموقف.
قال: فشيء سوى الخمر أنكرته؟
قال: نعم، إظهارك الجواري في العمّاريّات، وكشفهنّ الشعور منهنّ بين أيدينا كأنّهنّ فلق الأقمار. خرج الرجل ما يريد أن يهراق دمه في سبيل الله ويعقد جواده قاصدا نحو العدوّ، فإذا نظر إليهنّ أفسدن قلبه وركن إلى الدنيا وانصاع إليها.
فلم استحللت ذلك؟
قال: ما استحللت ذاك، وسأخبرك عن العذر فيه، فإن كان صوابا، وإلّا رجعت. أشيء غير هذا أنكرته؟
قال: نعم، شيء أمرت به تنهانا عن الأمر بالمعروف.
قال: أمّا الذي يأمر بالمنكر فإنّي أنهاه. وأمّا الذي يأمر بالمعروف فإنّي أحبّه على ذلك وأحدوه عليه. أشيء سوى ذلك؟
قال: لا.
قال يا صاحب الكفن، أمّا الخمر فلعمري قد حرّمها الله. ولكنّ الخمر لا تعرف إلّا بثلاث جوارح: بالنظر والشمّ والذوق. أفشربتها؟
قال: معاذ الله أن أنكر ما أشرب!
قال: أفيمكن في وقتك هذا أن تذهب إلى بائعها حتّى نوجّه معك من يشتري منها؟
قال: ومن يظهرها لي أو يبيعنيها وعليّ هذا الكفن؟
قال: صدقت، فكأنّك إنّما عرفتها بهاتين