للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الجارحتين. يا عجيف، عليّ بقوارير فيها شراب!

فانطلق عجيف فأتاه بعشرين قارورة فوقفها [١٣١ ب] بين يديه في أيدي عشرين وصيفا. ثم قال: يا صاحب الكفن، نفيت من آبائي الراشدين المهديّين إن تكن الخمر فيها. فإنّك تعلم أنّ الخمر من ستر الله على عباده، وأنّه لا يجوز لك أن تشهد على قوم مستورين إلّا بمعاينة وعلم، ولا يجوز لي أن آخذ إلّا بمعاينة بيّنة وشاهدي عدل.

فنظر صاحب الكفن إلى القوارير، فقال له عجيف: أيّها الرجل لو كنت خمّارا ما عرفت موضع الخمر بعينها من هذه القوارير.

فقال له: هذه الخمرة بعينها في هذه القوارير.

فأخذ المأمون القارورة فذاقها، ثم قطّب وقال:

يا صاحب الكفن، إلى هذه الخمر!

فتناول الرجل القارورة فذاقها فإذا خلّ زامخ (١) فقال: قد خرجت هذه عن حدّ الخمر.

فقال المأمون: صدقت، إنّ الخلّ مصنوع من الخمر، ولا يكون خلّا حتى يكون خمرا، ولا والله ما كانت هذه خمرا قطّ، وما هو إلّا رمّان حامض يعصر لي اصطبغ به من ساعته. فقد سقطت الجارحتان. بقي الشمّ. يا عجيف، صيّرها في رصاصيّات وائت بها!

ففعل، وعرضت على صاحب الكفن فشمّها، فوقع مشمّه على قارورة منها فيها ميبختج (٢) فقال: هذه!

فأخذها المأمون فصبّها بين يديه وقال: انظر إليها كأنّها طلى قد عقدتها النار، بل تقطع بالسكّين. قد سقطت إحدى الثلاث التي أنكرت يا صاحب الكفن!

ثمّ رفع المأمون رأسه إلى السماء فقال: اللهمّ إنّي أتقرّب إليك بنهي هذا ونظرائه عن الأمر بالمعروف.

يا صاحب الكفن أدخلك الأمر بالمعروف في أعظم المنكر! شنّعت على قوم باعوا من هذا الخلّ، ومن هذا الميبختج الذي شممت فلم تسلّم. استغفر الله من ذنبك هذا العظيم وتب إليه! ما الثاني؟

قال: الجواري.

قال: صدقت، أخرجتهنّ أتّقي عليك وعلى المسلمين: كرهت أن تراهنّ عيون العدوّ والجواسيس في العمّاريات والقباب، والسجف عليهنّ فيتوهّمون أنّهنّ بنات أو أخوات فيجدّون في قتالنا ويحرصون على الغلبة على ما في أيدينا حتى يجتذبوا خطام واحد من هذه الإبل يستقيدونه بكلّ طريق إلى أن يتبيّن لهم أنهنّ إماء. فأمرت برفع الطلال عنهنّ وكشف شعورهنّ، فعلم العدوّ أنّهنّ إماء نقي بهنّ حوافر دوابّنا (١*) لا قدر لهنّ عندنا. هذا تدبير دبّرته للمسلمين عامّة، ويعزّ عليّ أن ترى لي جرمة. فدع هذا فليس هو من شأنك، فقد صحّ [١٣٢ أ] عندك أنّي في هذا مصيب، وأنّك أنكرت باطلا. أيّ شيء الثالثة؟

قال: الأمر بالمعروف.

قال: نعم، أرأيت لو أنّك أصبت فتاة مع فتى قد اجتمعا في هذا الفجّ على حديث، ما كنت صانعا بهما؟

قال: كنت أسألهما: ما أنتما؟

قال: كنت تسأل الرجل فيقول: امرأتي، وتسأل المرأة فتقول: زوجي، ما كنت صانعا بهما؟

قال: كنت أحول بينهما وأحبسهما.

قال: حتى يكون ماذا؟


(١) الزانخ: ما تغيّر طعمه. وفي المخطوط: ذانخ.
(٢) الميبختج والميفختج: هو ربّ العنب مطبوخا (دوزي).
ولا نعرف الرصاصيّات. والأرصوصة غطاء للرأس (كازمرسكيّ).
(١*) لم نفهم القصد من وقاية الحوافر بالإماء. والطلل ج طلال: ستار الهودج.

<<  <  ج: ص:  >  >>