وكان للمأمون ابن عمّ جيّد الخطّ، فدخل عليه يوما فقال له المأمون: يا ابن عمّ، بلغني أنّك جيّد الخطّ، وذاك معدوم في أهلك.
فقال: يا أمير المؤمنين، جودة الخطّ بلاغة اليد.
قال: وبلغني أنّك شاعر.
قال: ذاك ضعة للشريف، ورفعة للوضيع.
قال: وبلغني أنّك سخيّ.
قال: يا أمير المؤمنين، منع الموجود قلّة ثقة بالمعبود.
فقال: فأنت أكبر أم أمير المؤمنين؟
قال: جوابي في ذلك جواب جدّك العبّاس للنبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا سئل، فقيل له: النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أكبر أم أنت؟ فقال: النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أكبر، وولدت قبله.
*** ولمّا ظهر الشّيب بالمأمون، كان يتمثّل بهذا البيت من شعر مسلم بن الوليد [البسيط]:
أكره شيء، وآسى أن يزايلني ... أعجب بشيء على البغضاء مودود!
نام العواذل واستكفين لائمتي ... وقد كفاهنّ نهض البيض في السود
أمّا الشباب، فمفقود له خلف ... والشيب يذهب مفقودا بمفقود
*** وقال هدبة بن خالد: حضرت غداء المأمون.
فلمّا رفعت المائدة جعلت ألتقط ما في الأرض.
فنظر إليّ فقال: أما شبعت يا شيخ؟
قلت: بلى يا أمير المؤمنين، إنّما شبعت في فنائك وكنفك، ولكنّي حدّثني حمّاد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر».
فنظر المأمون إلى خادم واقف بين يديه فأشار إليه، فما شعرت حتى جاءني ومعه منديل فيه ألف دينار، فناولني. فقلت: يا أمير المؤمنين، وهذا أيضا من ذاك.
وقال المأمون لمحمد بن عبّاد المهلّبي: يا أبا عبد الله قد أعطيتك ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وعليك دين! إنّ فيك سرفا!
قال: يا أمير المؤمنين، إنّ منع [١٣٥ أ] الموجود سوء الظنّ بالمعبود.
قال: أحسنت. يا محمّد، أعطوه ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف!
*** وكان الحسن بن سهل مؤالفا للأدباء، وكان له مجلس ينتابه فيه أهل الأدب. وكان رجل من أهل الأدب يأتيه. فلمّا تهيّأ عرس بوران، أهدى الناس إلى الحسن. وكان ذاك الرجل فقيرا، فأهدى إليه مزودين في أحدهما ملح طيّب، وفي الآخر اشنان (١*) طيب، وكتب إليه: «جعلت فداءك، خفّة البضاعة قصّرت ببعد الهمّة، وكرهت أن تطوى صحيفة أهل البرّ ولا ذكر لي فيها، فوجّهت إليك بالمبتدإ به ليمنه وبركته، وبالمختوم به لطيبه ونظافته». وكتب في أسفل رقعته [السريع]:
بضاعتي تقصر عن همّتي ... وهمّتي تقصر عن مالي
والملح والأشنان يا سيّدي ... أحسن ما يهديه أمثالي
فأخذ الحسن المزودين ودخل بهما على
(١*) الأشنان بالضمّ والكسر: ما تغسل به الأيدي.