للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يعدلوا، يرون الغدر حزما، ونقض العهد مكيدة ويمنعون الحقوق أهلها. فنسأل الله أن يهلك شرار هذه الأمّة ويولي أمورها خيارها وأبرارها.

فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إليه: بلغني أنّك تجلس العصرين فتفتي بالجهل وتعيب أهل البرّ والفضل وأظنّ حلمي عنك واستدامتي إيّاك جرّأك عليّ، فاكفف عنّي من غربك واربع على ظلعك وارع على نفسك (١).

فكتب إليه ابن عبّاس: فهمت كتابك. وإنّما يفتي بالجهل من لم يؤت من العلم شيئا، وقد آتاني الله منه ما لم يؤته أباك. وزعمت أنّ حلمك عنّي جرّأني عليك، فهذه أحاديث الضبع استها (٢). فمتى كنت لعرامك هائبا وعن حدّك ناكلا؟ ثم تقول إنّي إذا لم أنته وجدت جانبك خشنا ووجدتك إلى مكروهي عجلا. فما أكثر ما طرت إلى شقة من الجهل، وتعمّدتني بفاقرة من المكروه فلم تضرر إلّا نفسك، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا أرعى عليك إن أرعيت! فو الله لا انتهيت عن [٢٠٩ أ] إرضاء الله بإسخاطك!

وقال عبد الرحمن بن السائب عن ابن عبّاس أنّه قال: أكرم الناس عليّ جليسي: إنّ الذباب ليقع عليه فيشقّ ذلك عليّ.

وقال ابن أبي مليكة عن ابن عبّاس أنّه قال:

أكرم الناس عليّ جليسى. أو قال: رجل تخطّى رقاب الناس حتى جلس إليّ.

وقال عمرو بن دينار: قال ابن عبّاس: لجليسي عندي ثلاث: إذا أقبل رحّبت به، وإذا قعد أوسعت له، وإذا تحدّث أنصتت لحديثه واستمعت منه.

وقال ابن مليكة: قال عبد الله بن عبّاس: ثلاثة لا أقدر على مكافأتهم: رجل جئت ظمآن فسقاني، ورجل ضاق بي مجلسي فأوسع لي، ورجل اغبرّت قدماه في الاختلاف إلى بابي.

ورابع هو أعظمهم حقّا عليّ: رجل بات ساهرا يعرض الناس على نفسه فأصبح لا يجد له في حاجته معتمدا سواي (١*).

وعن عطاء: كنّا نأتي ابن عبّاس فيؤتى بغدائه فأقول: إنّي صائم، فما يزال يقسم عليّ حتّى أدنو فأتغدّى معه.

وقال القاسم بن محمد: ما رأيت في مجلس ابن عبّاس باطلا قطّ. وكان الرجل يأتي مجلس ابن عبّاس، وقد انتعل ليقوم، فيخلع نعليه، فيقول له الرجل: «لا يحبسك مكاني، يا أبا العبّاس! » فيقول: ما أنا بقائم حتّى أحدّثك وتحدّثني فأسمع منك.

وعن عكرمة أنّه قال: إنّا مع ابن عبّاس يوم عرفة إذا فتية يحملون فتى معروق الوجه ناحل البدن، فوضعوه بين يدي ابن عبّاس وقالوا:

استشف له، يا ابن عمّ رسول الله.

فقال: ما به؟

فأنشده [الطويل]:

بنا من جوى الأحزان والوجد لوعة ... تكاد لها نفس الشّفيق تذوب (٢*)

ولكنّما أبقى حشاشة معول ... على ما به عود هناك صليب

ثمّ حملوه فخفت في أيديهم فمات. وسأل ابن عبّاس عنه فقيل: هذا عروة بن حزام العذري صاحب عفراء. فقال ابن عبّاس: «هذا قتيل الحبّ


(١) حاشية: اربع على ظلعك: ارفق بنفسك فيما تحاوله.
وقيل: لا يربع على ظلعك من يحزنه أمرك.
(٢) أحاديث الضبع استها مثل يضرب للمحلّط في كلامه:
مجمع ١٠٥٧ واللسان في سته.
(١*) عيون الأخبار ٣/ ١٧٦، مع اختلاف.
(٢*) الأغاني ٢٣/ ١١٦: بنا من جوى الأحزان في الصدر ...

<<  <  ج: ص:  >  >>