للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم.

فصاحب البدعة لا يلبّس أمره ولا يشبّه في بدعته ولا يكذب نفسه فيما ينتحله (١). والعجب من القاضي أبي بكر الباقلّاني (٢) [كيف] يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة ويرى هذا الرأي الضعيف.

فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين، والتعمّق في الرفض، فليس ذلك بدافع في صدر بدعتهم، وليس إثبات منتسبهم بالذي يغني عنهم من الله شيئا في كفرهم. وقد قال تعالى لنوح عليه السلام في شأن ابنه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: ٤٦]. وقال صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة يعظها: «يا فاطمة، اعملي، فلن أغني عنك من الله شيئا» (٣). ومتى عرف امرؤ قضيّة أو استيقن أمرا وجب عليه أن يصدع به وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: ٤].

والقوم كانوا في مجال لظنون الدول بهم وتحت رقبة من الطغاة بتوفّر شيعتهم وانتشارهم في القاصية بدعوتهم، وتكرّر خروجهم مرّة بعد أخرى فلاذت رجالاتهم بالاختفاء ولم يكادوا يعرفون كما قيل [الطويل]:

فلو تسأل الأيّام: ما اسمي؟ ما درت ... وأين مكاني، ما عرفن مكانيا (٤)

حتى لقد سمّي محمد بن إسماعيل الإمام جدّ عبيد الله المهديّ بالمكتوم، سمّته بذلك شيعتهم لما اتّفقوا عليه من إخفائه حذرا من المتغلّبين عليهم. فتوصّل شيعة آل العباس بذلك عند ظهورهم إلى الطعن في نسبهم وازدلفوا بهذا الرأي الفائل إلى المستضعفين من خلفائهم وأعجب به أولياؤهم وأمراء دولتهم المتولّون لحروبهم مع الأعداء يدفعون به عن أنفسهم وسلطانهم معرّة العجز عن المقاومة والمدافعة لمن غلبهم على الشام ومصر [٢١٨ ب] والحجاز من البربر الكتاميّين شيعة العبيديّين وأهل دعوتهم حتى لقد أسجل (١*) القضاة ببغداد بنفيهم من هذا النسب، وشهد بذلك من أعلام الناس جماعة ببغداد في يوم مشهود، وذلك سنة ثنتين وأربعمائة في أيّام القادر. وكانت شهادتهم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد، وغالبها شيعة بني العبّاس الطاعنون في هذا النسب، فنقله الأخباريّون كما سمعوه، ورووه حسب ما وعوه، والحقّ من ورائه. وفي كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة أصدق شاهد وأوضح دليل على صحّة نسبهم:

فالمعتضد أقعد (٢*) بنسب أهل البيت من كلّ أحد، والدولة والسلطان سوق للعالم تجلب إليه بضائع العلوم والصنائع وتلتمس فيه ضوالّ الحكم وتحدى إليه ركائب الروايات والأخبار، وما نفق فيها نفق عند الكافّة. فإن تنزّهت الدولة عن التعسّف والميل والأفن (٣*) والشقشقة، وسلكت


(١) هذه الفقرة ملتبسة، والذي ذهب إليه فانيان بعد دي سلان: أنّ صاحب النحلة الجديدة ينبغي له أن لا يكذب ولا يحتجّ إلّا لما لا شبهة فيه حتى يصدّقه الناس.
(٢) في المقدّمة، بعد اسم القاضي: شيخ النظّار من المتكلّمين، كأنّه ينعى عليه قصر النظر.
(٣) في الجامع الصغير للسيوطي، ١/ ٤٨: اعملي ولا تتّكلي [على شفاعتي]. وورد بلفظ مغاير في العقد الفريد ٣/ ١٦٢ على لسان الأوزاعي يعظ المنصور العبّاسي.
(٤) في معجم البلدان (المقدّمة): فلو تسأل الأيام عنّي لما درت ... والبيت غير منسوب. وهو في ديوان أبي نواس، ٤٦٩: ما اسمي لما درت ...
(١*) أسجل له: كتب له. وأسجل الكلام: أطلقه مسترسلا.
(٢*) الأقعد النسب: القريب الآباء من الجدّ الأعلى. وفي اللسان: فلان أقعد من فلان: أي أقرب منه إلى جدّه الأكبر. فالمعتضد أقرب إلى آل البيت من كلّ أحد، أي ألصق بنسبهم فلا يفوته الزائف منه إلخ ...
(٣*) الأفن: ضعف العقل.

<<  <  ج: ص:  >  >>