الفرجة لعلّه أن يعيش فيها المحترف وينسى فيها القتيل فإنّ بقاء المهلك بعد الهالك قليل.
فلمّا بلغ قوله عليّ بن أبي طالب قال لسعيد بن قيس الهمداني: أجب الرجل!
فتقدّم سعيد فقال: يا أهل الشام، إنّه كان بيننا وبينكم أمور حامينا فيها عن [٢٥٧ أ] الدين والدنيا سمّيتموها غدرا [وسرفا] (١) وقد دعوتمونا إلى ما قاتلناكم عليه، ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم ولا أهل الشام إلى شامهم بأمر أجمل منه:
أن نحكم بما أنزل الله. فالأمر في أيدينا دونكم، وإلّا فنحن نحن وأنتم أنتم.
فلمّا انقضت صفّين ثمّ قتل عليّ رضي الله عنه، وصالح الحسن بن علي عليه السلام معاوية واستقرّ له الأمر استعمل عبد الله بن عمرو على الكوفة. فأتاه المغيرة بن شعبة فقال: استعملت عبد الله على الكوفة وأباه على مصر فتكون نازلا بين نابي الأسد.
فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة، فبلغ عمرو بن العاصي كلام المغيرة فدخل على معاوية وقال: استعملت المغيرة على الخراج، وإنّه ليغتال المال ولا تستطيع أن تأخذه منه. استعمل على الخراج رجلا يخافك ويتّقيك.
فعزله عن الخراج واستعمله على الصلاة.
وقدم عبد الله بن عمرو مع أبيه مصر فلم يزل بها حتّى مات أبوه وقد استخلفه على مصر فأقرّه معاوية عليها، ثمّ عزله بعتبة بن أبي سفيان، فأقام بمصر إلى أن مات معاوية واستخلف بعده ابنه يزيد بن معاوية. فكره عبد الله بن عمرو أن يبايع ليزيد. وكان مسلمة بن خالد الأنصاري أمير مصر يومئذ بالإسكندريّة فبعث إليه كريب بن أبرهة
وعابس بن سعيد فدخلا عليه ومعهما سليم بن عتر وهو يومئذ قاضي مصر وقاصّ. فوعظوا عبد الله في بيعة يزيد فقال: والله لأنا أعلم بأمر يزيد منكم.
وإنّي لأوّل الناس أخبر به معاوية أن يستخلف.
ولكن أردت أن يلي هو بيعتي.
وقال لكريب: أتدري ما مثلك؟ مثل قصر عظيم في صحراء غشيه ناس قد أصابهم الحرّ فدخلوا يستظلّون فيه فإذا هو ملآن من مجالس الناس. وإنّ صوتك في العرب كريب بن أبرهة وليس عندك شيء. وأمّا أنت يا عابس بن سعيد، فبعت أخراك بدنياك. وأمّا أنت يا سليم بن عتر فكنت قاصّا فكان معك ملكان يعينانك ويذكّرانك، ثمّ صرت قاضيا فمعك شيطانان يزيغانك عن الحقّ ويفتنانك.
وذكر أبو عمر الكنديّ أنّ مسلمة كتب إلى عابس بن سعيد من الإسكندرية بأخذ البيعة ليزيد، فبايعه الجند إلّا عبد الله بن عمرو، فدعا عابس بالنار ليحرق عليه بابه. فلمّا رأى ذلك بايع ليزيد.
ولم يزل بمصر حتّى مات بها للنصف من [٢٥٧ ب] جمادى الآخرة سنة خمس وستّين. فلم يستطع أن يخرج بجنازته إلى المقبرة لشغب الجند على مروان بن الحكم في داره بسبب قتله الأكدر بن حمام.
وقيل: مات ليالي الحرّة في ولاية يزيد بن معاوية، وكانت الحرّة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجّة سنة ثلاث وستّين.
وقيل: مات سنة ثلاث وسبعين.
وقيل: مات بأرضه بالسّبع من فلسطين سنة خمس وستّين.
وقيل: مات بمكّة سنة سبع وستّين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
(١) الزيادة من وقعة صفّين، ٥٥٢.