للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأنّ القوم لعلى الباطل يقاتلون مع معاوية، وأنتم مع البدريّين قريب من مائة من أهل بدر ومن سوى ذلك من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم كثير، معكم رايات قد كانت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومع معاوية رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمن يشكّ في هؤلاء، إلّا ميّت القلب؟ فإنّما أنتم على إحدى الحسنيين: إمّا الفتح وإمّا الشهادة. عصمنا الله وإيّاكم بما عصم به من أطاعه واتّقاه، وألهمنا وإيّاكم طاعته وتقواه، وأستغفر الله لي ولكم.

ولمّا انهزمت ميمنة عليّ رضي الله عنه وقتل أهل الشام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، أقبل عليّ نحو الميسرة يركض فمرّ بالأشتر، فقال له: يا مال!

قال: لبّيك يا أمير المؤمنين.

قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه، إلى الحياة التي لا تبقى لكم؟

فمضى الأشتر فاستقبل الناس مهزومين ونادى:

إليّ أيّها الناس، أنا مالك بن الحارث، أيّها الناس، أنا الأشتر، إليّ أيّها الناس!

فأقبلت إليه طائفة وذهبت عنه طائفة، فقال:

عضضتم بهن أمّكم! ما أقبح ما قاتلتم اليوم! يا قوم، غضّوا الأبصار وعضّوا بالنواجذ، واستقبلوا القوم بهامكم ثمّ شدّوا شدّة قوم موتورين ثاروا بآبائهم وأبنائهم وإخوانهم، حنقا على عدوّهم، قد وطّنوا على الموت أنفسهم كيلا يسبقوا بثأر. إنّ هؤلاء القوم والله إن يقارعوكم إلّا عن دينكم ليطفئوا السنّة ويحيوا البدعة، ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة. فطيبوا عباد الله نفسا بدمائكم دون دينكم، فإنّ الفرار فيه سلب العزّ والغلبة على الفيء وذلّ المحيى والممات وعار الدنيا والآخرة.

فاجتمعت إليه مذحج، فقال: عضضتم بصمّ الجندل، ما أرضيتم ربّكم ولا نصحتم له في عدوّه، وكيف بذلك وأنتم أبناء الحرب وأصحاب الغارات، وفتيان الصياح وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان، الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم ولا تطلّ دماؤهم ولا يعرفو [ن] في موطن بخسف، وأنتم أجدّ أهل مصركم وأعدّ حيّ في قومكم؟ وما تفعلون في هذا اليوم فإنّه مأثور بعد اليوم فأبقوا مآثر الأحاديث في غد واصدقوا عدوّكم اللقاء، فإنّ الله مع الصادقين. والذي نفسي بيده، ما من هؤلاء- وأشار إلى أهل الشام- رجل على مثل جناح البعوضة من دين الله، لله أنتم! ما أحسنتم اليوم القراع! أجلوا سواد وجهي كي يرجع في وجهي دمي بهذا السواد الأعظم! فإنّ الله لو فضّه تبعه من بجانبيه كما يتبع السيل مقدمه.

فقالوا له: خذ بنا حيث أحببت.

فصمد بهم وأخذ يزحف ويردّهم. واستقبله الشبام [حيّ] من همدان وكانوا ثمانمائة مقاتل قد صبروا في الميمنة حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل، وقتل أحد عشر رئيسا، كلّما قتل منهم رجل أخذ الراية آخر، وانصرفوا وهم يقولون:

ليت لنا عدّتنا من العرب يحالفو [ن] نا ثمّ نستقدم نحن وهم فلا ننصرف حتّى نقتل أو نظفر! - فمرّوا بالأشتر وهم يقولون هذا، فقال لهم: إليّ! إليّ! أنا أحالفكم وأعاقدكم على أن لا نرجع أبدا أو نظفر أو نهلك!

وزحف نحو الميمنة وثاب إليه الناس، وكان لا يصمد لكتيبة إلّا كشفها [٢٩ ب]، ولا لجمع إلّا ردّة. فمرّ به (١) يزيد بن قيس [الأرحبيّ] وقد صرع، فقال: هذا والله الصبر الجميل، والفعل الكريم! ألا يستحي الرجل أن [ينصرف] لم يقتل أو


(١) مرّ به محمولا بعد مصرعه: وقعة صفّين ٢٨٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>