والقاهرة لولاية القضاء، ويفرد كلّا منهم على حدة حتّى لا يعرف واحد منهم أنّه استدعى غيره. ففعل ذلك، وطلب السلطان الجماعة واحدا واحدا، وسأل كلّ واحد عن الآخر هل يصلح لولاية القضاء، فما منهم إلّا من يقع فيمن ذكر له، ويذمّه بأقبح ذمّ حتّى أتى على الجميع، ولا علم لأحد منهم بطلب غيره. فتحيّر السلطان في أمره [٤٥ ب] وفاوض الوزير فيه وتعجّب كيف لم يجد بديار مصر من يصلح للقضاء.
فقال: أعرف رجلا يصلح للقضاء، ولا يعرف فقهاء مصر ولا يعرفونه، وهو بدر الدين ابن جماعة خطيب القدس.
فبعث البريد في طلبه يوم التاسع من شهر رمضان سنة تسعين وستّمائة، فقدم به يوم الأربعاء حادي عشره. وأفطر عند الوزير ليلة الخميس وصار به إلى قلعة الجبل من الغد، ففوّض له السلطان قضاء القضاة بديار مصر وتدريس المدرسة الصالحيّة وخطابة الجامع الأزهر من غير أن يخلع عليه، ونزل فكتم ذلك. وأفطر ليلة الجمعة عند الوزير فخاطبه بقاضي القضاة، فتناقل الناس ولايته، واستدعى الوزير القضاة وأخبرهم باستقرار ابن جماعة في القضاء، فهنّئوه، وخرج.
فأتاه التقليد مع عزّ الدين عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسيّ الحنبليّ. فلبس الخلعة يوم الجمعة ثالث عشره، وركب بها إلى دار الوزير حتى سلّم عليه وسار من عنده بالخلعة إلى الجامع الأزهر، فخطب الناس وصلّى بهم الجمعة.
ورسم له ولبقيّة قضاة القضاة الثلاث [ة] بلبس الطرحة فلبسوها، ثمّ تحوّل إلى المدرسة الصالحيّة بين القصرين بالقاهرة في يوم الجمعة خامس عشرينه، ودرّس بها يوم الأحد ثاني عشر شوّال.
فلمّا خطب الناس بقلعة الجبل الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد في يوم الجمعة خامس عشر شوّال منها، تقدّم قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة بعد فراغه من الخطبة وصلّى بالسلطان والنّاس صلاة الجمعة.
واستمرّ يخطب بالقلعة، واستناب عنه في خطابة الجامع الأزهر صدر الدين عبد البرّ بن رزين.
ولم يزل على القضاء إلى أن صرف عنه بتقيّ الدين ابن بنت الأعزّ في تاسع عشرين صفر سنة ثلاث وتسعين بعد قتل الأشرف وابن السلعوس.
وعوّض عن القضاء بتدريس المدرسة الناصريّة بجوار قبّة الإمام الشافعيّ بقرافة مصر، وتدريس المشهد الحسينيّ بالقاهرة.
ثمّ ولي قضاء دمشق بعد موت شهاب الدين محمد بن أحمد الخويّيّ في [ ... ] رمضان منها.
وأضيفت إليه خطابة الجامع الأمويّ في نصف شوّال، فاستمرّ إلى أن صرف عن القضاء بإمام الدين عمر القزوينيّ في رابع جمادى الأولى سنة ستّ وتسعين وبقي على خطابة الجامع وتدريس القيمريّة. ثمّ أعيد إلى القضاء بعد موت القزوينيّ في نصف شعبان سنة تسع وتسعين. وأضيف إليه مشيخة الشيوخ [٤٦ أ] بعد موت شيخ الشيوخ فخر الدين يوسف بن حمويه في ربيع الأوّل سنة إحدى وسبعمائة. فلمّا مات قاضي القضاة تقيّ الدين محمد ابن دقيق العيد طلب إلى القاهرة وأعيد إلى قضاء القضاة مرّة ثانية في [ ... ] شعبان سنة اثنتين وسبعمائة.
فلم يزل على قضاء القضاة بالديار المصريّة إلى أن صرفه الملك الناصر محمد بن قلاوون بجمال الدين سليمان بن عمر الزرعيّ في آخر صفر سنة عشر وسبعمائة. ثمّ أعاده مرّة ثالثة في حادي عشرين ربيع الآخر سنة إحدى عشرة عوضا عن الزرعي، وولّى الزرعيّ قضاء العسكر.
فلمّا أنشأ السلطان الجامع الجديد الناصريّ خارج مدينة مصر، ولّاه الخطابة به. فطالت ولايته