للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وإنّما هي دوخلّة بالتشديد: فوعلّة على وزن قوصرّة.

فرفع البيّاع وجهه إليه فرأى شيخا عجيب الخلقة وحش الثياب بطرطور، وقد تعمّم فوقه فظنّ أنّه من الريف، فقال: والله يا مولاي الشيخ إنّك دوخلة.

فقال ابن بركات: دوخلة العلم لا دوخلة الرطب!

فقال البيّاع: لا والله، إلّا دوخلة النحس!

فضحك الناس. وبلغ الخبر إلى الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش سلطان مصر بشكوى ابن بركات ما جرى عليه إلى الوالي الذي يعلّم أولاده. فاستدعى الأفضل البيّاع ووهبه دنانير وضحك من القضيّة. وأنفذ إلى الشيخ مع الوالي دنانير أيضا.

وكان في آخر عمره قد ضعف بصره. فعمل قصيدة وسأل ولد ابن أبي أسامة كاتب الدست أن يحضره قدّام الأفضل ويتوسّط له في المجلس ويحسن السفارة في حقّه، ليثيبه عليها. فقرّر له يوما وبعث إليه أولاده- وكانوا يقرءون عليه.

فقالوا: يا مولاي الشيخ، لا يجب أن تحضر قدّام السلطان بهذه الثياب القطن الدنسة. نحن نأخذ لك ثوبا نصافيّا وعمامة جديدة وعرضيّا من الشرب، وتتبخّر وتتطيّب بماء الورد فتعود إلى سيماء الناس. ربّما يدنيك السلطان ويحادثك فلا يرى منك إلّا ما يعجبه، فإنّ الملوك لا صبر لهم على ما لا يعجبهم.

فقال: يا قوم، والله إنّكم تطلبون منّي تعديل ما أماله القدر. وكذلك [١٣٦ أ] خلقني الله عزّ وجلّ وكذا قدّر لي، فتتعبون ولا يكون إلّا ما قدّر لي.

فقالوا: لا بدّ.

فقال: اعملوا ما شئتم.

ففصّلوا له ثوبا من النصافيّ السابوريّ، وغلالة من الغزل المعروف بالطلّيّ، ومعهما عمامة من الصقلبيّ وعرضي من الشرب الرفيع، وجاءوا بعود وندّ وماء ورد في قنّينة كبيرة، ثمّ واعدوه الغد وقالوا له: تلبس الثياب فتبخّر وتطيّب، واجلس حتّى تحضر لك بغلة، وتمضي.

فقال: أفعل.

فلمّا كان السحر قام الشيخ ولبس ثيابه التي أحضروها له وتطيّب. ثمّ أخذ قنّينة ماء الورد ليرشّها على وجهه وثيابه فغلط وأخذ قنينة الحبر ورشّ منها على وجهه ولحيته وعمامته وثيابه فصار سخاما (١) من قرنه إلى قدمه. فلمّا جاء القوم ورأوه بهتوا، لأنّهم رأوا شيخا أسود مستحمّ (٢) الوجه كأنّما مرّغته في زفت، فقالوا: أيّ شيء هذا يا مولاي الشيخ؟

قال: عنادكم للمقادير، إنّي أقول لكم إنّ الله سبحانه لم يخلقني إلّا على ضدّ ما تطلبون. وأنتم تعاندون: أردت أن آخذ قنّينة ماء الورد، فأخذت قنّينة للحبر، وأنا في الظلماء، وبصري كما علمتم، وبختي لم يبت البارحة عندي- وكان له بوّاب يسمّي بختي، وكان من الصالحين- ثمّ قال:

والله الذي لا إله إلّا هو إن صبغت ثيابي وكلّ ما عليّ إلّا أزرق!

فقالوا: لا تفعل!

فقال: قد كان ذلك! - وصبغ ثيابه وكلّ ما عليه عند الصبّاغ.

وبلغ الخبر الأفضل فأحضره وسمع قصيدته، ومنها [الرجز]:


(١) السخام بالضمّ: الفحم، والسحام بالمهملة: السواد
(٢) استحمّ وتحمّم: صار أسود.

<<  <  ج: ص:  >  >>