يوم الاثنين [ ... ] جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين، بسبب ولده جمال الدين عبد الله وتجاسره بما لا يقدم عليه غيره من الانهماك في اللهو، ومدّ يده إلى أخذ الأموال في الولايات، وكثرة توسّعة واقتنائه الخيول المسوّمة الكثيرة ومعاشرة المماليك وأولاد الأكابر. فلمّا زاد أمره في ذلك أخرجه السلطان إلى دمشق فأقام بها مدّة، ثمّ تشفّع أبوه بالأمراء حتّى أحضر إلى القاهرة، فسلك على عادته وزاد. فأخرجه السلطان ثانيا إلى دمشق وهدّده، فلم يطق الصبر على فراقه لفرط حبّه إيّاه فسأل في عوده وضمن توبته، فأجيب إلى ذلك وطلب إلى القاهرة.
فبسط يده في عمارة الدار التي اشتراها أبوه من شمس الدين [ ... ] بن الأطروش على النيل بجزيرة الفيل، حتى لم يكن على شاطئ النيل كحسنها، واستدعى لها الرخام وغيره من قضاة الأعمال وأحضر الصّنّاع من دمشق، فبلغت النفقة عليها زيادة على خمسمائة ألف درهم. فشنعت القالة بسببها وكثر تعنيف الأمراء لقاضي القضاة، فلم يعبأ بذلك. وجدّد ابنه عبد الله أيضا دارا بالقاهرة أنفق فيها ثمانين ألف درهم مع ما كان فيه من جفاء وقوّة نفس. فاشتدّ النكير على الجلال، ورفعت فيه وفي ابنه عبد الله وبقيّة أولاده عدّة قصص للسلطان بأنّه لا يولي أحدا [١٧ ب] قضاء شيء من الأعمال إلّا برشوة كبيرة، وأنّه يجتمع لولاية قضاء الناحية جماعة فيتزايدون في الولاية، وتبلغ الخمسة آلاف والستّة آلاف، والسلطان يغضي عن ذلك لمحبّته في الجلال وكثرة عنايته به، إلى أن عمل فيه حسن الغزّيّ الشاعر قطعة طويلة يعرّض فيها بأولاده وبالصارم مملوكه، منها [الرجز]:
قاض على الأيتام سلّ صارما ... بحدّه يلتقط الدراهما
وشنّ من أولاده لهاذما ... جرّدهم فانتهكوا المحارما
والشبل في المخبر مثل الأسد ... وابنه البدر خطيب جلّق
بامرأة الكامل مشغوف شقيّ ... بادره بالعزل فليس يرتقي
منابر الإسلام إلّا متّقي ... متّزر ثوب العفاف مرتدي
يا ملك الإسلام يا ذا الهمّة ... أزل عن الإسلام هذي الغمّة
واحلل بعبد الله سيف النقمة ... فإنّه حجّاج هذي الأمّة
واردعه ردع كلّ مفسد
فلمّا بلغت السلطان بعث إليه الدوادار بأن يتوجّه لقضاء دمشق (وقال): فإنّه استحيى منك ومن الأمراء والناس. وكلّما عرّفك أن ترجع ابنك عمّا هو فيه يكثر فساده. فإذا طلعت إلى دار العدل فاستعف من القضاء بحضرة الأمراء.
فعند ما حضر دار العدل يوم الاثنين استعفى، فأعفي. ورسم بسفره على البريد، فسأل المهلة أيّاما فأجيب ونزل. وكان قد اقترض من المدرسة الأشرفيّة جملة، ومن مال الأيتام نحو مائتي ألف وثلاثين ألف درهم. فباع أملاكه وأثاثه، وباع من صنف الصينيّ خاصّة بمبلغ أربعين ألف درهم.
وباع ابنه عبد الله إحدى عشرة جارية ما بين ثمانية آلاف الجارية إلى أربعة آلاف، ومن الجوهر واللؤلؤ بما ينيف على مائة وعشرين ألف درهم، ودارا بخطّ دكّة الحسبة من القاهرة بمبلغ خمسة وثلاثين ألف درهم، وكان مصروفها زيادة على مائتي ألف درهم.
وأوفى ما عليه من الديون، وعوّض وقف الأشرفيّة كتبا كانت له بما في جهته للوقف.