للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ولد على دين النصرانيّة في سنة تسع وخمسين وستّمائة. وعانى كتابة الديونة (١). وكان متألّها في نصرانيّته إلى أن أكره على الإسلام فامتنع من ذلك، وهمّ بقتل نفسه وتغيّب أيّاما. ثمّ أسلم وحسن إسلامه وتمذهب بمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وأبعد النصارى ولم يقرّب منهم أحدا، وحجّ غير مرّة، وتصدّق في آخر عمره بثلاثة آلاف درهم في كلّ شهر، وبنى عدّة مساجد بديار مصر، وعمّر أحواضا كثيرة لماء السبيل في الطرقات، وبنى مارستانا بمدينة الرملة، ومارستانا بمدينة نابلس، وأكثر من فعل الخير، وزار مرّة القدس وأحرم منه للحجّ إلى مكّة.

وكان إذا أخدمه أحد مرّة واحدة استمرّ صاحبه إلى آخر الدهر، وقضى أشغاله. وكانت فيه عصبيّة شديدة لأصحابه، وانتفع به خلق كثير من الناس لوجاهته عند السلطان وإقدامه عليه، بحيث إنّه لم يكن لأحد من أمراء الدولة على السلطان ما له من الإقدام، حتى إنّ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قال لجنديّ سأله في إقطاع: لا تطوّل! فو الله لو أنّك ابن قلاوون ما أعطاك القاضي فخر الدين خبزا (٢) يعمل أكثر من ثلاثة آلاف درهم!

وقال له السلطان مرّة، وهو جالس في دار العدل بحضرة الأمراء وغيرهم من أهل الدولة: يا فخر الدين، تلك القضيّة طلعت «فاشوش»!

فقال له الفخر: ما قلت لك إنّها عجوز نحس؟

- يريد بذلك أردكين بنت نوكاي زوجة السلطان، فإنّها ادّعت أنّها حبلى، ثم تبيّن عدم حبلها.

وأوّل ما باشر وظيفة كتابة المماليك، وما زال

يعرف بكاتب المماليك حتى مات. ثمّ انتقل إلى وظيفة ناظر الجيش فوليها بعد [ ... ] في [ ... ] ونال فيها من الوجاهة ما لم ينله غيره واستقرّ ولده شمس الدين عبد الله كاتب المماليك عوضا عنه.

فعاداه الأمير أرغون نائب السلطنة، وصار إذا جلس للحكم أعرض عنه وأدار كتفه إليه. فأخذ الفخر في العمل عليه إلى أن حجّ. فقال للسلطان في بعض الأيّام وهو يحادثه: يا خوند، ما يقتل الملوك إلّا نوّابهم: هذا بيدرا قتل أخاك الملك [٢١٩ ب] الأشرف، ولاجين قتل بسبب نائبه منكوتمر.

فحرّك هذا القول من السلطان كوامن كان أغراه بها على أرغون وكثر تخيّله منه، وبعث إليه يأمره أن يسير من طريق الحجاز إلى حلب، فتوجّه إليها واستراح الفخر منه.

ثمّ إنّه أحبّ أن يستأثر بالكلمة فحسّن للسلطان أن لا يستوزر أحدا، فأبطل الوزارة بعد صرف الأمير مغلطاي الجماليّ، وصارت أمور المملكة كلّها، من الأموال والجيوش وغيرها، متعلّقة به.

ثمّ إنّ السلطان غضب عليه وقبضه في يوم الأحد عاشر ربيع الأوّل سنة ثنتي عشرة [وسبعمائة] وولّى قطب الدين موسى بن أحمد ابن شيخ السلاميّة نظر الجيش، وصادر الفخر وأخذ منه أربعمائة ألف درهم. وسبب ذلك أنّه أخرق بالأمير فخر الدين أياز شادّ الدواوين. فاجتمع بالسلطان وأغراه بكثرة أمواله وأنّه يخلص منه ألف ألف درهم، فأصغى إليه وخرج إلى الفخر وهو مع الأمراء على باب القلّة بالقلعة وفاتحة الشرّ وبسط لسانه فيه، ثمّ قام إلى السلطان هو والفخر، ورافعه في وجهه حتّى غضب السلطان وسلّمه إليه ليأخذ ماله، فأخرجه إلى قاعة الصاحب بالقلعة وأوقع الحوطة على موجوده وحواشيه. فقام عدّة أمراء


(١) الديونة: لم نجدها عند دوزي، وهي في صبح الأعشى ٢/ ٤٧٧، ٤٨٠.
(٢) الخبز هنا بمعنى الوظيفة التي تدرّ رزقا.

<<  <  ج: ص:  >  >>