وتصدّى للرد عليهم وإبطال ما ادّعوه، وصنّف في كلّ فنّ من هذه العلوم كتبا أحسن تأليفها، وأجاد ترتيبها وترصيفها. وكان شديد الذكاء، قويّ الإدراك، بعيد الغور، ذا فطنة ثاقبة، وذهن حاضر، وغوص على المعاني، وحسن إيراد لما يورده. فحصل له في مدّة قريبة ما لم يحصل لأمثاله في مدّة طويلة، حتى صار أفقه أهل زمانه، وانظر أقرانه، وسابق ميدانه، وريحانة بستانه، وإمام الفقهاء على الإطلاق، وربّانيّ الأمّة بالاتّفاق، ومجتهد زمانه، وعين وقته وأوانه. فشاع ذكره في البلاد، واشتهر فضله بين العباد، فاتّفقت الطوائف على تبجيله وتعظيمه وتوقيره وتكريمه، فخافه المخالفون، وانقهر لحججه وأدلّته المناظرون، وظهرت بتنقيحاته فضائح المبتدعة والمخالفين، وقام بنصر السنّة وإظهار كلمة الدين، وسارت مصنّفاته في الدنيا سير الشمس في البهجة والجمال، وشهد له الموافق والمخالف بالمتقدّم والكمال، حتى ذكر أنه صنّف في حياة أستاذه إمام الحرمين أبي المعالي الجوينيّ كتاب «المنخول»، فلمّا رآه الجوينيّ قال له: دفنتني وأنا حيّ! هلّا صبرت حتى أموت، لأنّ كتابك غطّى على كتابي.
فلمّا مات أبو المعالي خرج الغزالي إلى العسكر قاصدا الوزير نظام الملك، وناظر الأئمّة الكبار في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه على الكلّ، واعترف بفضله الخاصّ والعامّ، وتلقّاه نظام الملك بالقبول، وأحلّه محلّ النفوس، وأجلّه إجلال المرءوس.
ثمّ ولّاه التدريس بمدرسته النظاميّة ببغداد، وأمره بالتوجّه إليها، فقدم بغداد سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ودرّس في جمادى الأولى منها فأعجب الكل بحسن كلامه وكمال فضله وعبارته الرشيقة ومعانيه الدقيقة، وإشاراته اللطيفة ونكته الظريفة.
فلمّا اجتمع الفقهاء إليه وفرغوا من تهنئته والثناء عليه، قالوا له: قد علم سيّدنا أنّ العادة لكلّ من ولي تدريس هذه البقعة أن يعمل للفقهاء دعوة، ويحضرهم سماعا، جريا على رسم من سبق من الأئمّة. وأنت من أفضل من نزلها، ونريد أن تكون دعوتك في كمال النعمة كرتبتك في رتب من سبق من الأئمّة.
فقال لهم: سمعا وطاعة، ولكن على أحد أمرين: إمّا أن يكون التقدير إليكم [٤٤ أ] والتعيين لي. وإمّا أن يكون التعيين إليكم والتقدير لي.
فقالوا: بل التقدير لك والتعيين لنا. فنريد الدعوة اليوم!
فقال لهم: فالتقدير حينئذ منّي على حسب ما يمكنني: أن أحضر لكم خبزا وخلّا وبقلا.
فقال الفقهاء: لا والله! بل التعيين لك، والتقدير لنا. ونريد أن يكون في هذه الدعوة من الحملان كذا وكذا، ومن الدجاج كذا، ومن الحلوى كذا.
فقال: سمعا لكم وطاعة! والتعيين بعد ستّين! - فقالوا: عجزنا! وقد سلّمنا الكلّ إليك، لعلمنا أنّنا إن جرينا معك على قاعدة النظر جلت بيننا وبين الظفر من هذه الدعوة بقضاء الوطر!
وأقام على التدريس حتى شرفت نفسه عن رذائل الدنيا، فرفض ما كان فيه من التقدّم والجاه، وانخلع عن نعمته وجاهه وحشمته. وترك التدريس وحجّ.
وتوجّه إلى الشام بعد رجوعه في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين واستناب أخاه في التدريس.
وجاور ببيت المقدس، ثمّ عاد إلى دمشق