وقد أخذت صحبتك أيضا جملة مماليك، وليس لك بهم حاجة، ولا بشيء من المال المذكور.
فترسل جميع ما تسلّمته من المال الذي بالكرك وجميع المماليك، وتخلّي منهم عشرة مماليك برسم الخدمة. وترسل أيضا الخيول التي أخذتها معك. ومتى لم ترسل ذلك، جرّدنا إليك عسكرا بعد عسكر، إلى أن نخرّب الكرك- وبعث الكتاب مع الأمير علاء الدين مغلطاي أيتغلي.
فلمّا قرأ الكتاب جمع من عنده واستشارهم فيما يفعل إلى أن اقتضى رأيه إخماد الشرّ. وكتب إلى بيبرس: إنّي ما قصدت أن أقيم بهذا المكان إلّا أن أعيش باقي عمري في أيّامك. وأنت الذي ربّيتني، وما أعرف أبا لي غيرك. والذي أنا فيه، فمنك وعلى يديك. والقدر الذي أخذته وتناولته من الكرك، فأنت تعلم أنّه لا بدّ [منه] على كلفة ونفقة. وقد امتثلت المرسوم [الشريف] وأرسلت نصف المبلغ الذي تأخّر عندي امتثالا لأمرك. وأمّا الخيل فبعضها مات، وما بقي لي شيء أركبه إلّا قليلا منها. وأمّا المماليك فما عندي إلّا من اختار أن يقيم معي، وهو منقطع العلائق من الأهل والولد. فكيف يحلّ أن أخرجهم. وما بقي لي إلّا إحسان مولانا السلطان.
وكتب أوّل الكتاب: المملوك محمد بن قلاوون يقبّل الأرض، وتحت [هـ]: السيّد الملكيّ المظفّري. ودفعه إلى أيتغلي وأعطاه مبلغ مائتي ألف درهم.
فقنع المظفّر بها وسكت قليلا. ثم أعاده إليه ليحضر الخيل بأسمائها والمماليك بأسمائها، وجنف (١) في القول عليه وأغلظ في مخاطبته وحمّل الرسول مشافهة قبيحة. فلمّا بلّغها لم يطق الناصر الصبر، واشتدّ غضبه وقال: أنا تركت ملك
مصر والشام لبيبرس، وما يكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندي أو مملوك لي، حتى أرسل يطلبه ويكرّر الطلب! ارجع إليه وقل له عنّي: والله لئن لم تتركني في هذه القلعة وإلّا سرت إلى بلاد التتار، وأعلمتهم بحالي.
فلم يلاطفه أيتغلي بل جافاه في القول حتى أغضبه، وأمر بقتله وأن يطرح من أعلى القلعة إلى الخندق. فتناولته أيدي المماليك وأقاموه وسبّوه ولعنوه، ولم يبق إلّا أن يلقى من شارف القلعة.
فشفع فيه خواصّ السلطان، فعفا [٩٧ أ] عنه وحبسه. وأخذ في إجالة الرأي مع خواصّه إلى أن عزم على مكاتبة النوّاب والأمراء.
وكان عند قدومه الكرك قد أخذ رجل بها طالع وقت دخوله، فاقتضى من حيث معرفة الفلك أنّه سيعود للملك. وجهر بذلك حتى بلغ السلطان.
فبعث إليه وصار يجتمع به كثيرا ويفاوضه في هذا ونحوه. وحضر إليه رجل يضرب بالرمل، وأخبره أنّه لا يقيم بالكرك إلّا دون السنة، ويعود إلى مصر سلطانا، ويكون على يده عجائب، ويقتل أناسا كثيرة. وأحضر إليه رجل ملحمة تتضمّن أسماء من يملك من الأتراك، وأنّه آخر من يملك من أولاد قلاوون، وفيه صفته وجميع ما وقع له. وأنّه يعود إلى الملك ويظفر بأعدائه، وتطول مدّته.
فتعلّقت نفسه بالعود إلى الملك، إلى أن أغضبه أيتغلي فتحرّك منه ما كان ساكنا. وكتب إلى نائب حلب، ونائب حماة، ونائب طرابلس، ونائب صفد، وإلى أمراء مصر، يعرّفهم ما كان فيه من ضيق اليد وقلّة الحرمة، وأنّه لأجل ذلك ترك ملك مصر، وقنع بالكرك ليستريح، وأنّ السلطان الملك المظفّر في كلّ وقت يرسل يطالبني بالمال، ثمّ بالخيل، ثمّ بالمماليك. وما منكم إلّا من هو مملوك أبي، وربّاني. فإمّا أن تردّوه عنّي، وإمّا أن أخرج إلى بلاد التتار فأقيم بينهم حتى أموت.
(١) جنف بوزن ضرب: حاد عن الصواب.