للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فلحقه وقال: الشريف معتذر.

فقال: يدع حديثي ويقبل على الجمل الأجرب؟

- فسمّي سابور «الجمل الأجرب» إلى أن مات.

وبلغ المتنبّي أنّ سيبويه يقع فيه، فمرّ به وهو على باب المسجد، فقال وقد وقف عليه: أيّها الشيخ، قد كنت أحبّ أن أراك.

فقال: رعاك الله وأبقاك.

فقال: بلغني أنّك أنكرت عليّ قولي [الطويل]:

ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له ما من صداقته بدّ

فما كان الصواب عندك؟

قال: العداوة ضدّ الصداقة، ولكن لو قلت:

ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له ما من مداراته بدّ

وهذا رجل منّا قد قال [الوافر]:

أتاني في قميض اللاذ (١) يسعى ... عدوّ لي يلقّب بالحبيب

[١٥٩ ب] فقال المتنبّي: مع هذا غيره؟

قال: نعم:

فقلت له: استعملت هذا ... لقد أقبلت في زيّ عجيب (٢)

فقال: الشمس أهدت لي قميصا ... مليح اللون من شفق الغروب

فثوبي والمدام ولون خدّي ... قريب من قريب من قريب

فتبسّم المتنبّي وانصرف، وسيبويه يصيح به.

وكان يشبّه في حضور جوابه وخطابه وحسن

عبارته وكثرة روايته بأبي العيناء. وكان قد تناول البلاذر فعرضت له منه لوثة. وكان أكثر الناس يتبعونه ويكتبون عنه ما يقول، قال يوما: يا أهل مصر، أصحابنا البغداديّون أحزم منكم، لا يقولون بالولد حتى يتّخذوا له العقد والعدد، فهم أبدا يعتزلون.

ولا يقولون باتّخاذ العقار خوفا من أن يملكهم سوء الجوار، فهم أبدا يكترون.

ولا يقولون باتّخاذ المهائر (٣) خوف أن تتوق أنفسهم إلى السراريّ، فهم أبدا يتسرّرون.

ولا يقولون بإظهار الغنى في مكان غرفوا فيه بالفقر، فيهم أبدا يسافرون.

ووقف يوما بالجامع، وقد أخذت الحلق مأخذها، فقال: يا أهل مصر، حيطان المقابر أنفع منكم: يستند بها من التعب، ويستدفأ بها من الريح، ويستظلّ بها من الشمس. والبهائم خير منكم: تمتطى ظهورها، وتحتذى جلودها، وتؤكل لحومها.

وكان الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات المعروف بابن حنزابة ربّما رفع أنفه تيها. فقال له سيبويه وقد رآه فعل ذلك: «أشمّ الوزير رائحة كريهة فشمر أنفه؟ » فأطرق.

وخرج سيبويه فقال له رجل: من أين أقبلت؟

فقال: من عند الزاهي بنفسه، المدلّ بعرسه- يعني أنّه متزوّج بابنة الإخشيد- المستطيل على أبناء جنسه.

واستأذن على الشريف مسلّم فحجب عنه، فقال: قولوا له: يرجع إلى لبس العبا، ومصّ النوى، وسكنى الفلا، فهو أشبه [به] من نعيم


(١) اللاد جمع لاذة: وهو الثوب الأحمر من حرير.
(٢) الشطر الأوّل غير موزون وقراءتنا ظنيّة.
(٣) المهائر ج مهيرة: الحرّة من النساء ذات المهر الغالي.

<<  <  ج: ص:  >  >>