للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وببغداد من قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن عليّ ابن الدامغانيّ، وأبي الحسين عاصم بن الحسن وغيره، وبواسط من أبي الحسن عليّ بن محمد المغازليّ، وبالبصرة ومكّة من غير واحد.

وحجّ سنة ستّ وسبعين وأربعمائة، وسار إلى بغداد والبصرة. وتفقّه على أبي محمّد الشاشيّ، واجتمع بالإمام أبي حامد الغزاليّ ببيت المقدس.

وأقام بالإسكندريّة فتفقّه عليه أكثر فقهائها. وكانت إليه الرحلة، وقدم القاهرة مرارا، وآخر ما قدم إليها في شهر شوّال سنة ستّ عشرة وخمسمائة، والوزير يومئذ الأجلّ المأمون أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ، وكانت بينهما مودّة قديمة، وأهدى إليه كتاب «سراج الملوك»، وكان قد صنّفه للأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش، فقتل قبل إتمامه (١).

فبالغ في كرامته، وأنزله بمجلسه، وقام عند رؤيته، وجلس بين يديه، وأجرى له في كلّ يوم خمسة دنانير من مال الجوالي (٢)، فلم يقبل منها غير دينارين كانا باسمه من الأيّام الأفضليّة.

وكان الداعي لحضوره أمر المواريث، وما يأخذه أمناء الحكم من أموال الأيتام، وهو ربع العشر، وأمر توريث البنت نصف المال. وكانوا يورّثونها جميع المال مع وجود العصبة، كما هو مذهب آل البيت. فاعتدّ المأمون بأنّ هذه قضيّة لم يحدثها، وأنّ أمير الجيوش بدرا هو الذي استجدّها، وهي تسمّى بالمذهب الدارج: وهو أنّ

كلّ من مات يعمل في ميراثه على حكم مذهبه، وقد مرّ على ذلك عدّة سنين.

فقال له الفقيه أبو بكر: إذا علمت أنّها ما تخلّصك من الله فغيّرها، ويكون لك أجرها.

فقال: أنا نائب الخليفة، ومذهبه ومذهب جميع الشيعة من الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة أنّ الإرث جميعه للابنة خاصّة بلا عصبة ولا بيت مال، ويتمسّكون بآية من كتاب الله كما يتمسّك غيرهم، وأبو حنيفة موافقهم في القضيّة- يعني توريث ذوي الأرحام.

وطال بينهما الكلام، إلى أن قال المأمون للفقيه أبي بكر: أنا لا أريد مخالفتك، ولا في قدرتي أن أردّ على الجماعة مذهبهم، والخليفة يرى به وينقضه على من يأمر به، بل أرى لشفاعة الفقيه أن أردّ الجميع للابنة على رأي الدولة فيرجع كلّ أحد إلى حكم رأيه في مذهبه فيما يخلّصه من الله، ويبطل حكم بيت المال الذي لم يذكره في كتابه ولا أمر به الرسول عليه السلام.

فأجاب الفقيه إلى ذلك، وأمر المأمون بأن يكتب [به وأن يكتب] بتعويض أمناء الحكم عن ربع العشر [بتقرير جار لهم في كلّ شهر] من مال المواريث الحشريّة (٣). وكتب توقيع شملته العلامة الآمريّة [وبعدها العلامة] المأمونيّة، نصّه، بعد البسملة: خرج [أمر] أمير المؤمنين، الآمر بأحكام الله، أبو عليّ المنصور، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، بإنشاء هذا المنشور عند ما طالعه السيّد الأجلّ المأمون أمير الجيوش، وهو الخالصة أفعاله في حياطة المسلمين، وذو المقاصد المصروفة إلى النظر في مصالح الدنيا


(١) أي: قتل الأفضل سنة ٥١٥ قبل أن يتمّه الطرطوشيّ.
(٢) الجوالي «ما يؤخذ من أهل الذمّة عن الجزية المقرّرة على رقابهم في كلّ سنة» (صبح الأعشى ٣/ ٤٦٢، دهمان رقم ٢٩٤). وانظر: جاسر أبو صفيّة: مشكلة الجوالي في البرديّات الأمويّة، حوليّات الجامعة التونسيّة عدد ٨٩ (١٩٩٥) ص ١٨٣.
(٣) هي المواريث التي لا وارث لها، فتعود إلى بيت المال (صبح الأعشى ٣/ ٤٦٤). والزيادات والإصلاح من اتّعاظ الحنفاء ٣/ ٨٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>