للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[١٩٨ أ] على من اشتغل عليه، فإنّه كان قدم مصر ولم يبق أحد ينتفع به غالبا، فكان يعلّم الإنسان كتاب الطهارة، ويخرجه إلى بلد فيعلّمهم ذلك، ويعلّم آخر الصلاة، ويفعل به كذلك، وآخر الزكاة، وآخر الصيام، حتّى كان من يستفاد منه غالبا إنّما هم أصحابه أو أصحاب أصحابه.

وقال فيه أبو العبّاس العرشيّ [الخفيف]:

لمّ شمل الإسلام بعد انصداع ... وتلافى رثيثه تجديد

مثل ما لمن أبو بك ... ر فعاد الطريف مثل التليد (١)

وقال إبراهيم بن مهدي بن قلنبا المالكيّ الفقيه المتكلّم: شيخنا أبو بكر الطرطوشيّ، زهده وعبادته أكثر من علمه. وكانت الطلبة والفقهاء يقرءون عليه للتبرّك، وانتفع جماعة به وتخرّجوا عليه. وورد بغداد، وكان عليه كساء وقلنسوة، وكان معه هميان (٢) فيه مائتا دينار. فاتّفق أنّهفي الطريق أراد أن يتوضّأ، فوضعه في موضعه فنسيه فوجده رجل ديّن خيّر. فصبر يومين فرآه لا يضطرب ولا يطلب شيئا، فقال له الرجل: هل ضاع لك شيء؟

فقال: هميان فيه كذا.

فأخرج الهميان وقال: هذا لك؟

قال: بلى!

فأخذه منه، فقال له الرجل: فما لك سكتت؟

قال: إذا قلت ضاع منّي مائتا دينار، وعليّ هذه البزّة، من كان يصدّقني؟

(قال): وكان الفقهاء بالليل يكرّرون وينامون، فيجيء الفقيه الطرطوشيّ ويترك الدنانير الصحاح

في أفواههم، فإذا انتبه الفقيه منهم يجد الذهب في فيه ولا يعلم من تركه فيه.

وأخرج من الإسكندريّة صبيحة يوم السبت لآخر ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وخمسمائة. ومنع الناس من الخروج معه خوفا من فتنة تكون. وغلّقت وقت خروجه عليهم أبواب المدينة فلم يقدر أحد يصحبه إلّا أبو طاهر إسماعيل بن مكّي بن عوف، وعطيّة بن مسلم اللخميّ، وحسين بن ياسين الصعيديّ، وشبيب العلّاف الأزديّ، وعبد الله القاضي المالكيّ، فإنّهم خرجوا معه إلى القاهرة. فدخل على الأفضل ابن أمير الجيوش يوم الاثنين ثامن رجب، فأكرمه وفرح به. ولم يبق متولّي الثغر غير شهر حتى ورد عليه كتاب الأفضل بعزله، فخرج باكيا حزينا في مثل اليوم الذي خرج فيه الطرطوشيّ.

وكان [١٩٨ ب] اسمه جوهر [وهو] من جملة الأرمن الموالي، وقرّر الأفضل للطرطوشي عشرة دنانير في كلّ شهر من جوالي (٣) النصارى، وأعطاه المحرس المعروف بالشرف. وما برح بمصر حتى قتل الأفضل، وولي أبو عبد الله محمد بن فاتك الوزارة من بعده. فأذن له في الانصراف إلى الإسكندريّة، وأكرمه، وأضاف إليه عشرين فدّانا من البهنسى بالصعيد، كانت لأبي شبل المعقليّ الزعبيّ العابد بجزيرة الإسكندريّة. ثمّ توفّر له أيضا بعد عوده إلى الإسكندريّة خمسة دنانير في كلّ شهر من الخمس الروميّ (٤). فسأل القاضي مكين الدولة أبا طالب أحمد ابن حديد أن يجعلها على الجوالي.


(١) قراءة الشطر الثالث مستعصية.
(٢) الهميان كيس لحفظ النقود يحمل كالحزام.
(٣) مرّ شرح الجوالي من قريب ص ٢٢١ أهـ ٢.
(٤) الخمس الروميّ: ضريبة على تجّار النصارى الواصلين بحرا إلى الديار المصريّة. صبح الأعشى ٣/ ٤٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>