للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

برغبته في النظر، وأنّه قد حبس نفسه على ذلك إلّا ما يشغله من صناعة الزجاج في كل خمسة أيّام من الشهر، فيتقوّت بذلك الشهر كلّه. ثم أجرى عليه في الشهر ثلاثين درهما. وأمره المبرّد باطّراح كتب الكوفيّين، ولم يزل ملازما له، وآخذا عنه، حتى برع من بين أصحابه، فكان المبرّد لا يقرئ أحدا كتاب سيبويه حتى يقرأه على الزجّاج ويصحّح [٢٢٧ أ] (١) به كتابه، فكان ذلك أوّل رئاسة الزجّاج.

[٢٢٦ ب] وقال محمد بن درستويه: حدّثني الزجّاج قال: كنت أخرط الزجّاج، فاشتهيت النحو، فلزمت المبرّد لتعلّمه، وكان لا يعلّم مجّانا، ولا يعلّم بأجرة إلّا على قدرها، فقال لي:

أي شيء صناعتك؟

فقلت: أخرط الزجاج، وكسبي كلّ يوم درهم ودانقان، أو درهم ونصف. وأريد أن تبالغ في تعليمي وأعطيك في كلّ يوم درهما، وأشرط لك أنّي أعطيك إيّاه أبدا إلى أن يفرّق الموت بيننا، استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه.

فلزمته، وكنت أخدمه في أموره مع ذلك وأعطيه الدرهم، فمضى في التعليم حتّى استقللت. فجاءه كتاب بعض بني مازن من الصراة يلتمسون معلّما نحويّا لأولادهم، فقلت له:

«أسمني لهم! » فأسماني فرحت إليهم، فكنت أعلّمهم وأنفذ إليه في كلّ شهر ثلاثين درهما، وأتفقّده بعد ذلك بما أقدر عليه. ومضت على ذلك مدّة، فطلب منه عبيد الله بن سليمان مؤدّبا لابنه القاسم، فقال له: لا أعرف لك إلّا رجلا بالصّراة مع بني مازن.

فكتب إليهم عبيد الله واستنزلهم عنّي فنزلوا له، وأحضرني فأسلم القاسم إليّ. وكان ذلك سبب غنائي. وكنت أعطي المبرّد ذلك الدرهم في كلّ يوم إلى أن مات، ولا أخليه من النفقة معه بحسب طاقتي (٢).

(قال): وقرأ المبرّد ثلث كتاب سيبويه على الجرميّ، وتوفّي الجرميّ، فابتدأ قراءته على المازنيّ (٣).

وأنشد الحافظ أبو نصر الحسين بن عبد الواحد الشيرازيّ للمبرّد [الطويل]:

يقول أناس إنّ مصرا بعيدة ... وما بعدت مصر، وفيها ابن طاهر

وأبعد من مصر رجال تعدّهم ... بحضرتنا، معروفهم غير حاضر

عن الخير موتى ما تبالي أزرتهم ... على طمع أم زرت أهل المقابر

وقال الخطيب عن أبي عبد الله المفجّع: كان المبرّد لعظم حفظه اللغة واتّساعه فيها يتّهم بالكذب، فتواضعنا على مسألة لا أصل لها نسأله فيها لننظر كيف يجيب، وكنّا قبل ذلك تمارينا في عروض بيت:

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

فقال بعضنا: «هو من البحر الفلاني»، فقطّعناه وتردّد على أفواهنا من تقطيعه. فقلت له: - أيّدك الله- ما القبعض عند العرب؟

فقال المبرّد: القطن، يصدّق ذلك قول الشاعر [الوافر]:

كأنّ سنامها حشي القبعضا

فقلت لأصحابي: هو ذا ترون الجواب!


(١) في اللوحة ٢٢٦ ب ورقة طيّارة تحمل هذا القسم من ترجمة الزجّاج، وهي ملصقة أفقيّا على المخطوط.
(٢) تنتهي هنا الإضافة الطيّارة ويستأنف الكلام في ٢٢٧ أ.
(٣) أبو عمر الجرمي (ت ٢٢٥) وأبو عثمان المازني (ت ٢٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>