للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

في الإمتاع، وهو من لم يأكل عنده أحد في عصرنا شيئا قطّ، ولا رآه أحد يأكل أو يشرب، ولقد كان- عفا الله عنه وعنّا- معه في المنزل من أقاربه سكّان، فسألناهم عن خبره في مأكله ومشربه، فذكروا أنّه كان إذا أراد الأكل دخل البيت، وأخذ الماء معه، وردّ الباب في وجهه، أو طرح السّتر فلا يعلم أحد منهم بشيء من أمره.

(قال): لمّا قتل المتوكّل بسرّمن رأى رحل المبرّد إلى بغداد، فقدم بلدا لا عهد له بأهله، فاختلّ، وأدركته الحاجة. فتوخّى شهود صلاة الجمعة، فلمّا قضيت الصّلاة أقبل على بعض من حضره، وسأله أن يفاتحه السؤال ليتسبّب له القول، فلم يكن عند من حضره علم. فلمّا رأى ذلك رفع صوته، وطفق يفسّر، يوهم بذلك أنّه قد سئل، فصارت حوله حلقة عظيمة، وهو يصل في ذلك كلامه. فتشوّف ثعلب إلى الحلقة، وكان [٢٢٥ ب] كثيرا ما يرد الجامع قوم خراسانيّون من ذوي النظر، فيتكلّمون ويجتمع الناس حولهم، فإذا بصر بهم ثعلب أرسل من تلاميذه من يفاتشهم، فإذا انقطعوا عن الجواب انفضّ الناس عنهم، فلمّا نظر ثعلب إلى من حول أبي العبّاس أمر إبراهيم بن السّريّ الزجّاج وابن الحائك (١) بالنهوض، وقال لهما: فضّا الحلقة!

ونهض معهما من حضر من أصحابه، فلمّا صاروا بين يديه قال له إبراهيم بن السريّ: أتأذن لي، أعزّك الله، في المفاتشة؟

فقال المبرّد: سل عمّا أحببت.

فسأله عن مسألة فأجابه فيها بجواب أقنعه، فنظر الزّجّاج في وجوه أصحابه متعجّبا من تجويد المبرّد للجواب، فلمّا انقضى ذلك قال له أبو العبّاس: أقنعت بالجواب؟

فقال: نعم.

قال: فإن قال لك قائل في جوابنا هذا: كذا، ما أنت راجع إليه؟

وجعل أبو العبّاس المبرّد يوهن جواب المسألة ويفسده ويعتل فيه، فبقي الزجّاج سادرا لا يحير جوابا، ثم قال: إن رأى الشيخ- أعزّه الله- أن يقول في ذلك؟

فقال [أبو العبّاس]: فإنّ القول على نحو كذا.

فصحّح الجواب الأوّل، وأوهن ما كان أفسده به، فبقي الزجّاج مبهوتا، ثم قال في نفسه: قد يجوز أن يتقدّم له حفظ هذه المسألة واتّفاق القول فيها.

ثم سأل مسألة ثانية، ففعل المبرّد فيها بنحو فعله في المسألة الأولى، حتى والى بين أربع عشرة مسألة، يجيب عن كلّ واحدة منها بما يقنع، ثم يفسد الجواب، ثم يعود إلى تصحيح القول الأوّل.

فلمّا رأى ذلك الزجّاج قال لأصحابه: عودوا إلى الشيخ، فلست مفارقا هذا الرجل، ولا بدّ لي من ملازمته والأخذ عنه.

فعاتبه أصحابه وقالوا: تأخذ عن رجل مجهول لا تعرف اسمه، وتدع من قد شهر علمه، وانتشر في الآفاق ذكره؟

فقال لهم: لست أقول بالذكر والخمول، ولكنّي أقول بالعلم والنظر.

(قال): فلزم المبرّد، وسأله عن حاله، فأعلمه


- الأهتميّ المنقريّ فهو الخطيب الأديب المشهور، أعلام النبلاء ٦/ ٢٢٦ (١٠٩).
(١) هو هارون بن الحائك الضرير، أحد أعيان ثعلب، انظر الزبيدي ١٥١ (٧٥). وقصّة الزجاج مع ثعلب والمبرّد رواها المقريزيّ في ترجمته رقم ١٤٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>