للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وعارضته البحار فضحضحها، ثمّ كان أمّة وحده، وفردا حتى نزل لحده، أخمل من القرناء كلّ عظيم، وأخمد من أهل الفناء كلّ قديم، ولم يكن منهم إلّا من يجفل عنه إجفال الظليم، ويتضاءل لديه تضاؤل الغريم [الكامل]:

ما كان بعض الناس إلّا مثلما ... بعض الحصى الياقوتة الحمراء

جاء في عصر مأهول بالعلماء، مشحون بنجوم السماء، تموج في جانبيه بحور خضارم، وتطير بين خافقيه نسور قشاعم، وتشرق في أنديته بدور دجنّة، وصدور أسنّة، وتثار جنود رعيل، وتجار أسود غيل، إلّا أنّ صباحه طمس تلك النجوم، وبحره طمّ على تلك الغيوم، ففاءت سمرته على تلك التلاع، وأطلّت قسورته على تلك السباع. ثمّ عبّئت له الكتائب فحطّم صفوفها، وخطم أنوفها.

وابتلع غديره المطمئنّ جداولها، واقتلع طوده المرجحنّ جنادلها، وأخمدت أنفاسهم ريحه، وأكمدت شراراتهم مصابيحه [الوافر]:

تقدّم راكبا فيهم إماما ... ولولاه لما ركبوا وراء

فجمع أشتات المذاهب وشتّات المذاهب (١)، ونقل عن أئمّة الإجماع فمن سواهم مذاهبهم المختلفة واستحضرها، ومثّل صورهم الذاهبة وأحضرها. فلو شعر أبو حنيفة بزمانه وملك أمره، لأدنى عصره إليه مقرّبا، أو مالك، لأجرى وراءه أشهبه ولو كبا، أو الشافعيّ، لقال: ليست هذا كان للأمّ ولدا، أو: ليتني كنت له أبا! والشيبانيّ ابن حنبل، لما لام عذاره إذا غدا منه لفرط العجب أشيبا، لا، بل داود الظاهريّ وسنان الباطنيّ (٢)،

لظنّا تحقيقه من منتحله، وابن حزم والشهرستانيّ، لحشر كلّ منهما ذكره أمّة في نحله، والحاكم النيسابوريّ والحافظ السلفيّ، لأضافه هذا إلى استدراكه، وهذا إلى رحله. ترد [١٠٠ ب] الفتاوى ولا يردّها، وتفد عليه فيجيب عليها بأجوبة كأنّه كان قاعدا لها يعدّها [الكامل]:

أبدا على طرف اللسان جوابه ... فكأنما هي دفعة من صيّب

يغدو مساجله بغرّة صافح ... ويروح معترفا بذلّة مذنب

ولقد تظافرت عليه عصب الأعداء فألجموا إذ هدر فحله، وأفحموا إذ زمزم ليجني الشهد نحله.

ورفع إلى السلطان غير ما مرّة، ورمي بالكبائر، وتربّصت به الدوائر، وسعي به ليؤخذ بالجرائر، وحسده من لم ينل سعيه وكثر فارتاب، ونمّ فما زاد على أنّه اغتاب.

وأزعج من وطنه تارة إلى مصر ثمّ إلى الإسكندريّة، وتارة إلى محبس القلعة بدمشق، وفي جميعها يودع أخبية السجون، ويلدغ بزبانى (٣) المنون، وهو على علم يسطّر صحفه، ويدّخر تحفه، وما بينه وبين الشيء إلّا أن يصنّفه، ويقرّط به ولو سمع امرئ واحد ويشنّفه، حتّى تستهدي أطراف البلاد طرفه، وتستطلع ثنايا الأقاليم شرفه، إلى أن خطفته آخر مرة من سجنه عقاب المنايا، وجذبته إلى مهواتها قرارة الرزايا.

وكان قبل موته قد منع الدواة والقلم، [وطبع على قلبه] منه طابع الألم، فكان مبدأ مرضه ومنشأ عرضه، حتى نزل قفار المقابر، وترك فقار (٤)


- فهو داود بن علي الأصبهاني (ت ٢٧٠) صاحب الطائفة الظاهرية- الأعلام ٣/ ٨.
(١) قراءة ظنّيّة.
(٢) سنان بن سلمان، مقدّم الإسماعيليّة وصاحب الدعوة الباطنيّة (ت ٥٨٨) الأعلام ٣/ ٢٠٦، أمّا داود الظاهري-
(٣) زبانى العقرب: أطراف ذنبها.
(٤) فقار المنابر: لعلّه يعني فقرات الخطبة المنبريّة.

<<  <  ج: ص:  >  >>