للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المنابر، وحلّ ساحة تربه وما يحاذر، وأخذ راحة قلبه من اللائم والعاذر، فمات، لا بل حيي، وعرف قدره لأنّ مثله ما رئي.

وكان يوم دفنه يوما مشهودا ضاقت به البلد وظواهرها، وتذكّرت به أوائل الرزايا وأواخرها، ولم يكن أعظم منها منذ مئين سنين جنازة رفعت على الرقاب، ووطئت في زحامها الأعقاب، وسار مرفوعا على الرءوس، متبوعا بالنفوس، تحدوه العبرات وتتبعه الزفرات، وتقول له الأمم: لا فقدت من غائب! ولأقلامه النافقة: لا أبعد كنّ الله من شجرات! .

وكان في مدد ما يؤخذ عليه في مقاله وينبذ في حفرة اعتقاله لا تبرد له غلّة في الجمع بينه وبين خصمائه بالمناظرة، والبحث حيث العيون ناظرة، بل يبدر حاكم فيحكم باعتقاله ويمنعه من الفتوى، أو بأشياء من نوع هذه البلوى، لا بعد إقامة بيّنة ولا تقدّم دعوة ولا ظهور حجّة بالدليل، ولا وضوح محجّة للتأميل. وكان يجد لهذا ما لا يزاح فيه ضرر شكوى، ولا يطفأ ضرم عدوى [الطويل]:

وكلّ امرئ حاز المكارم محسود

[الكامل]:

كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنّه لدميم

كلّ هذا لتبريزه في الفضل حيث قصّرت النظراء، وتجلّيه كالمصباح إذ أظلمت الآراء، وقيامه في دفع حجّة التتار، واقتحامه، وسيوفهم تتدفّق، لجّة البدار، حتى جلس إلى السلطان محمود غازان حيث تجم الأسد في آجامها، وتسقط القلوب في دواخل أجسامها، وتجد النار فتورا في ضرمها، والسيوف فرقا في قرمها، خوفا من ذلك السبع المغتال، والنمرود المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيلة محتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرأ في نحره، فطلب منه الدعاء فرفع يديه ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمّن على دعائه وهو مقبل إليه. ثمّ كان على هذه المواجهة القبيحة والمشاتمة الصريحة أعظم في صدر غازان والمغل من كلّ من طلع معه إليهم، وهم سلف العلماء في ذلك الصدر، وأهل الاستحقاق لرفعة القدر، هذا مع ما له من جهاد في الله لم تفزعه فيه ظلل الوشيج، ولم يجزعه فيه ارتفاع النشيج، مواقف حروب باشرها، وطوائف ضروب عاشرها، وبوارق صفاح كاشرها، ومضايق رماح حاشرها، وأصناف خصوم [١٠١ أ] لدّ اقتحم معها الغمرات، وواكلها مختلف الثمرات، وقطع جدالها قويّ لسانه، وجلادها شبا سنانه، قام بها وصابرها، وبلي بأصاغرها، وقاسى أكابرها، وأهل بدع قام في دفاعها، وجاهد في حطّ يفاعها، ومخالفة ملل بيّن لها خطأ التأويل، وسقم التعليل، وأسكت طنين الذباب في خياشيم رءوسهم بالأضاليل، حتى ناموا في مراقد الخضوع، وقاموا، وأرجلهم تتساقط للوقوع، بأدلّة أقطع من السيوف، وأجمع من السجوف، وأجلى من فلق الصباح، وأجلب من فلق الرماح [الطويل]:

إذا وثبت في وجه خطب تمزّقت ... على كتفيه الدرع وانتثر السرد

إلّا أنّ سابق المقدور أوقعه في خلل المسائل، وخطل خطإ لا يأمن فيه مع الإكثار قائل، وأظنّه- والله يغفر له- عجّلت له في الدنيا المقاصّة، وأخذ نصيبه من بلواها عامّة وله خاصّة، وذلك لحطّه على بعض سلف العلماء، وحلّه لقواعد كثيرة من نواميس القدماء، وقلّة توقيره للكبراء، وكثرة تكفيره للفقراء، وتزييفه لغالب الآراء، وتقريبه

<<  <  ج: ص:  >  >>