للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فقال رجل ممّن حضرنا: إنّا كببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك فما شعرت بشيء من ذلك! وأتوني بسويق فقالوا لي: اشرب وتقيّأ! فقلت: لست أفطر- يعني من الصيام- ثمّ جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم (١) فحضرت صلاة الظهر، فتقدّم ابن سماعة (٢) فصلّى. فلمّا انفتل من الصلاة قال لي: صلّيت والدم يسيل في ثوبك. فقلت: قد صلّى عمر وجرحه يثعب (٣) دما.

وذكر ابن الجوزيّ بسنده إلى [أبي الفضل] عبيد الله بن عبد الرحمن الزهريّ قال: قال المروزيّ:

قال لي أبو عبد الله، وهو بين الهنتازين (٤): اخرج انظر أيّ شيء ترى! (قال) فخرجت إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقا من الناس لا يحصي عددهم إلّا الله، والصحف والأقلام في أيديهم والمحابر في أذرعتهم. فقال لهم المروزيّ: أي شيء تعملون؟

فقالوا: ننتظر ما يقول أحمد فنكتبه. فدخل المروزيّ إلى أبي عبد الله وهو قائم بين الهنتازين فقال:

رأيت قوما بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقوله فيكتبونه، فقال: يا مروزيّ، أضلّ هؤلاء كلّهم؟ أقتل نفسي ولا أضلّ هؤلاء كلّهم.

قال الحافظ أبو الفرج: قلت: هذا رجل هانت عليه نفسه في الله عزّ وجلّ كما هانت على بلال نفسه. وقد روينا عن سعيد بن المسيّب أنّه كانت عليهنفسه في الله تعالى أهون من نفس ذباب،

او إنّما تهون عليهم أنفسهم لعلمهم العواقب، فعيون البصائر ناظرة إلى المآل لا إلى الحال، وشدّة ابتلاء الإمام أحمد دليل على قوّة دينه لأنّه قد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: يبتلى الرجل على حسب دينه. فسبحان من أيّده وبصّره وقوّاه ونصره! .

وقد تقدّم كلام الإمام البيهقي بمعنى ذلك.

وذكر ابن الجوزي أيضا بسنده إلى ميمون بن الأصبغ قال: كنت ببغداد فسمعت ضجّة فقلت:

ما هذا؟ فقالوا: أحمد بن حنبل يمتحن. فأتيت منزلي فأخذت مالا له خطر، فذهبت به إلى [٤ ب] من يدخلني إلى المجلس، فأدخلوني، فإذا بالسيوف قد جرّدت وبالرماح قد ركزت وبالتراس قد نصبت وبالسياط قد طرحت. فألبسوني قباء أسود ومنطقة وسيفا، وأوقفوني حيث أسمع الكلام. فأتى أمير المؤمنين فجلس على كرسيّ، وأتى بأحمد بن حنبل فقال له: وقرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأضربنّك بالسياط أو تقول كما أقول! ثمّ التفت إلى جلّاد فقال: خذه إليك! فأخذه. فلمّا ضرب سوطا قال: باسم الله. فلمّا ضرب الثاني قال: لا حول ولا قوّة إلّا بالله. فلمّا ضرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق. فلمّا ضرب الرابع قال: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا [التوبة: ٥١] فضربه تسعة وعشرين سوطا.

وكانت تكّة سراويله حاشية ثوب فانقطعت فنزل السراويل إلى عانته فقلت: الساعة ينهتك! فرمى أبو عبد الله طرفه نحو السماء وحرّك شفتيه فما كان بأسرع من أن بقي السراويل لم ينزل (٥) (قال ميمون): فدخلت إلى أبي عبد الله بعد سبعة أيّام فقلت يا أبا عبد الله رأيتك يوم ضربوك قد انحلّ سراويلك فرفعت طرفك نحو السماء ورأيتك تحرّك شفيتك فأيّ شيء قلت؟ قال: قلت: اللهمّ إني


(١) إسحاق بن إبراهيم هو والي بغداد.
(٢) أبو عبد الله ابن سماعة (ت ٢٣٣) قاضي بغداد: تاريخ بغداد ٥/ ٣٤١ (٢٨٥٩).
(٣) ثعب بوزن فتح: سال.
(٤) الهنتازين في المخطوط بالمثنّاة الفوقيّة، والهنبازين بالباء الموحّدة في أعلام النبلاء والمناقب ٣٣١. ولعلّهما الخشبتان المنصوبتان لتعذيب الممتحنين. وهما في اللسان خشبتان يشبح- أي يمدّ- بينهما الرجل ليجلد. انظر «العقابان» ص ٤٩٢ هـ ٣.
(٥) في المناقب (٣٣١): من أن ارتقى ولم ينزل.

<<  <  ج: ص:  >  >>