صالح) وأخبرني بعض الخدّام أن المتوكّل كان قاعدا وراء ستر، فلمّا دخل أبي الدار قال المتوكّل لأمّه: يا أمّاه، قد أنارت الدار! ثمّ جاء خادم بمنديل فيه قميص ومبطّنة وقلنسوة، ثم أخذ بيد أبي عبد الله فأقامه وأدخل يده في جيب القميص والمبطنة ثمّ أخرج يده اليمنى واليسرى وهو لا يحرّكها، ثمّ أخذ قلنسوة فوضعها على رأسه وألبسه طيلسانا.
فلمّا عاد إلى الدار نزع الثياب عنه وجعل يبكي ويقول: سلمت من مخالطة هؤلاء منذ ستّين سنة حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم! ما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام- يعني ولد الخليفة- فكيف بمن يجب عليّ نصحه من وقت أن تقع عيني عليه إلى أن أخرج من عنده؟ ثمّ قال:
يا صالح، وجّه هذه الثياب إلى بغداد تباع ويتصدّق بثمنها، ولا يأخذ أحد منكم شيئا منها ولا من ثمنها. فبيعت وفرّق ثمنها.
وكان المتوكّل يرسل إليه المائدة فلا يأكل منها شيئا وكانت توضع في الدهليز حتى لا يراها، وكان يمكث ثلاثا لا يطعم، فإذا كانت الليلة الرابعة أضع بين يديه شيئا من السويق فربّما شربه [٦ ب]. وربّما ترك بعضه، ومكث على ذلك خمسة عشر يوما.
(قال) وقبض الخليفة على ابن أبي دواد فكان المتوكّل يرسل عقّابا ويعقوب فيقولان له: أمير المؤمنين يقول لك: ما تقول في ابن أبي دؤاد وفيماله؟ فلا يجيب في ذلك شيئا. ثمّ أصدر ابن أبي دؤاد إلى بغداد بعد أن أشهد عليه ببيع ضياعه، وكان عليّ بن الجهم ويحيى وغيرهما يتردّدون إليه في كلّ يوم ويبلغونه السلام عن المتوكّل.
ثمّ إنّ المتوكّل أمر أن تشترى لنا دار فقال لي أبي: يا صالح إن وافقتهم على شراء دار لتكوننّ القطيعة بيني وبينك! هؤلاء يريدون أن يصيّروا هذا البلد لي مسكنا.
(قال) وجاءه يعقوب قاصد الخليفة فقال له:
يجيئك ابني بين المغرب والعشاء فتحدّثه بحديث أو حديثين؟ فقال: لا، لا يجيء. فلمّا خرج سمعته يقول: ترى لو بلغ أنفه طرف السماء حدّثته؟ أنا أحدّث حتّى يوضع الحبل في عنقي؟
يريدون أن أحدّث فيكون هذا البلد حبسي، وإنّما كان سبب فتنة الذين أقاموا بهذا البلد أنّهم أعطوهم [ ... ] فحدثوا.
قال الحافظ أبو الفرج: وبلغني عن أبي الحسين ابن المنادي أنّه قال: امتنع أحمد من الحديث [ ... ] بنحو ثمان سنين وذلك أنّ المتوكّل وجّه إليه يقرأ عليه السلام ويسأله أن يجعل المعتزّ في حجره ويعلّمه العلم، فقال للرسول: اقرأ على أمير المؤمنين السلام وأعلمه أنّ عليّ يمينا مقفلة أنّي لا أتمّ حديثا حتّى أموت. وقد كان أمير المؤمنين أعفاني ممّا أكره، وهذا ممّا أكره، فقام الرسول من عنده.
وكان المتوكّل يوجّه إليه في كلّ يوم ويسأله عن حاله ويأمر لنا بالمال فيقول: يوصل إليهم ولا يعلم شيخهم، ويقول: لم يمنع جماعته.
وقال بعض أعدائه للمتوكّل: إنّه لا يأكل من طعامك ولا يجلس على فراشك ويحرّم هذا الشراب الذي تشرب. فقال في الجواب: لو نشر المعتصم- يعني أباه- وقال فيه شيئا لم أقبله! .
قال المروزيّ: سمعت أبا عبد الله يقول: إنّي لأتمنّى الموت صباحا ومساء، أخاف إن أحيا، أن أفتن بالدنيا. لقد تفكّرت البارحة فقلت: هذه