للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

واحدة بصور مختلفة. والحقّ أنّ المرئيّ ليس هو حقيقة شخصه ولا مثال شخصه الذي هو لحمه وعظمه، بل هو مثال جوهر روحه المقدّسة التي هي محلّ النبوّة. ولذلك ذات الله تعالى منزّهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتمي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره من الصور الجميلة التي تصلح أن تكون مثالا للجمال الحقيقيّ المعنويّ الذي لا صورة له، ويكون ذلك المثال حقّا وواسطة في التعريف فيقول القائل: رأيت الله تعالى، في المنام أو: رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم بمعنى أنّه رأى مثاله لا ذاته، والمثال في حقّ الله تعالى جائز، والمثل باطل، فإنّ المثل عبارة عن المساوي في جميع الصفات، والمثال بخلاف ذلك.

ونقل عن كثير من السلف أنّهم رأوا الله تعالى في المنام كالإمام أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهما وأبي العبّاس ابن سريج وأبي بكر الآجرّي ويحيى بن سعيد القطّان وأبي القاسم الجنيد وغيرهم رحمهم الله.

والقول في رؤية النبيّ صلّى الله عليه وسلم في اليقظة كالقول في رؤيته في المنام على ما ذكره الإمام الغزالي كما تقدّم. وقد سئل الشيخ الكبير العارف بالله المعروف بالشيخ بقا عن رؤية النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في اليقظة فقال رضي الله عنه: أرواحهم تشكّلت وإنّ الله تعالى أيّدهم بقوّة يظهرون بها فيراهم من قوّاه الله تعالى لرؤيتهم في صور الأجساد وصفات الأعيان، بدليل حديث المعراج.

ونقل عن سلطان المشايخ الشيخ عبد القادر الجيليّ رضي الله عنه أنّه قال: ما من نبيّ ولا وليّ إلّا وقد حضر مجلسي: الأحياء بأجسامهم والأموات بأرواحهم.

ثمّ رأيت كلاما حسنا لبعض الصوفية المحققين ممّن اجتمعت به واستفدت من فضائله، وهو أنّه قال: حقيقة رؤية النبيّ صلّى الله عليه وسلم في اليقظة إنّما هو من المبالغة في الاستعداد والتقرّب إلى الله تعالى لقوله: لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه الخ. فحينئذ تصير حال النائم حالا لذلك الوليّ عنده يقظة قلبيّة لأنّ حالة المقاومة ورسوخ الأقدام في المشاهدة تثمر مشاهدة الأمور المغيّبة في غالب الأوقات أو على الدوام لأهل الاستعداد التامّ. فحينئذ يصير المشهود من العالم عند هذا العارف مفقودا والمفقود مشهود له، وقد تغيب عن العالم جملة فلا يحمد له مع وجود الحقّ وشهوده وجودا كما قال سيّدي عمر بن الفارض قدّس الله روحه [الطويل]:

وما عثرت عين على أثري ولم ... تدع لي رسما في الهوى الأعين النجل (١)

وما عثرت عيني على أثري: يريد بالأثر جميع العالم وفناؤه في شهود المؤثّر له وهو الله، والمراد باليقظة القلبيّة هي اللازمة لأهل البصيرة لشدّة الاقتراب وإن كان ذلك عند أهل البصر فقط من وراء الحجاب، فعلى هذا يكون المراد برؤية النبيّ صلّى الله عليه وسلم في اليقظة اليقظة القلبيّة المعنويّة لا البصريّة الحسّيّة لخصوصيّة الأحباب من أولي الألباب.

والحكمة في عدم رؤيته صلّى الله عليه وسلم بالبصر أنّ المرئيّ بعين البصيرة هو الأرواح المشكّلة بشكل الأشباح دون ذاتها الكريمة لكرامتها وتنزّهها عن كلفة المجيء والرواح، وهذا القول في غاية الإيضاح، لأنّ بين حال الأحياء والأموات فرق (ا) وستر (ا) عند أهله مصون (ا) وجوبا ومكنون (ا) لا يباح، والله تعالى أعلم.


(١) جلاء الغامض في شرح ديوان ابن الفارض، بيروت د. ت ص ١٦١. وفي المخطوط: وما عثرت عيني ...

<<  <  ج: ص:  >  >>