للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقال له رجل (١): أنت إبراهيم بن أدهم؟

قال: نعم.

قال: من أين معيشتك؟

قال [الطويل]:

نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع (٢)

فقال: اخرج عنّي!

فخرج وهو يقول [مجزوء الخفيف]:

اتخذ الله صاحبا ... ودع الناس جانبا (٣)

وقيل له: لم حجبت القلوب عن الله؟

قال: لأنها أحبّت ما أبغض الله: أحبّت الدنيا ومالت إلى دار الغرور، واللهو واللعب [١٧ ب] وتركت العمل لدار فيها حياة الأبد، [في نعيم] لا يزول ولا ينفد، خالدا مخلّدا، في ملك سرمد، لا نفاد له ولا انقطاع.

وسئل: بم يتمّ الورع؟

قال: بتسوية كلّ الخلق في قلبك، والاشتغال عن عيوبهم بدينك، وعليك باللفظ الجميل، من قلب ذليل، لربّ جليل. فكّر في ذنبك، وتب إلى ربّك، ينبت الورع في قلبك، واقطع الطمع إلّا من ربّك.

وقال: ليس من أعلام الحبّ أن تحبّ ما يبغضه حبيبك. ذمّ مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهّد فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها.

ووعدكم خراب الدنيا فحصّنتموها، ونهاكم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكثّرتموها.

دعتكم إلى الغرّارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها. خدعتكم بغرورها، ومنّتكم فأقررتم خاضعين لأمانيها، تمرحون في زهراتها، وتتنعّمون في لذّاتها، وتتقلّبون في شهواتها، وتتلوّثون بتبعاتها، وتنبشون مخالب الحرص عن خرابها، وتحفرون بمعاول الطمع في شهواتها، وتبتنون بالفضلة في أماكنها وت [ت] حصّنون بالجهل في مساكنها.

وقال: قد رضينا من أعمالنا بالمعاني، ومن طلب التوبة بالتواني، ومن العيش الباقي بالعيش الفاني.

وقال: لا تجعل بينك وبين الله منعما عليك، وإذا سألت فاسأل الله أن ينعم عليك ولا تسأل المخلوقين، وعدّ النعم منهم مغرما.

وقال: مررت في بعض جبال الشام، فإذا الحجر مكتوب عليه نقش بالعربية [المقتضب]:

كلّ حيّ وإن بقي ... فمن العيش يشتقي

فاعمل اليوم واجتهد ... واحذر الموت يا شقيّ

فبينما أنا أقرأ وأبكي إذ أتى رجل أشعث أغبر، عليه مدرعة من شعر. فسلّم عليّ فرددت عليه السلام، فقال: ما يبكيك؟

فأخبرته. فقال: وأنت لا تبكي ولا تتّعظ حتى توعظ؟ فسر معي حتّى أقرئك غيره.

فمضيت معه غير بعيد، فإذا بصخرة عظيمة شبه المحراب، فقال: اقرأ وابك ولا تقصّر!

ثم قام يصلّي، فإذا في أعلاه نقش بيّن عربيّ [الكامل]:

لا تبغين جاها وجاهك ساقط ... عند المليك وكن لجاهك مصلحا


(١) في الحلية ٨/ ١٠: بعض الولاة.
(٢) ذكره الجاحظ في البيان والتبيين ١/ ٢٦٠.
(٣) في العقد ٣/ ٢١٣. ارض بالله صاحبا ...

<<  <  ج: ص:  >  >>