للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يأكل. فلمّا فرغ قال له: أخوك يسلّم عليك، وقد بعث معي هديّة.

قال: وأين الكتاب؟

قال: ما معي كتاب.

قال: فالمشافهة؟

قال: ما معي مشافهة، ولكن هديّة لا غير.

فقال: هاتها!

فأخرج خرقة وحلّها وناوله تفّاحة ثمّ ناوله بعدها مئزرا أسود، ثم ناوله بعدهما [٢١٢ ب] نصفيّة. ثم قام ليخرج، وقال: ما معي دستور (١) أن أقعد بعد إيصال الهديّة. فوجم الأفرم، وسارّه ودفع إليه نفقة وأعاده. فقال الأفرم لبعض من حضره: [أتعرف ما في هذه الهديّة؟

فقال: لا كثّر الله له خيرا فيما بعث!

فقال له: اسكت ويلك! إنّه بعث يقول: إن كنت تريد أن تشمّ هواء الدنيا مثلما تشمّ هذه التفّاحة، فسر في الليل الذي هو مثل هذا المئزر، وإلّا فهذه النّصفيّة كفنك!

فكان هذا من نادر ما يحكى في الذكاء والفطنة.

ولمّا سار كان عسكر مصر قد خرج لمنعه من اللحاق بقراسنقر. فلمّا أشرف ورأى العسكر قال لمن معه: شدّوا لي على حمام! - وكان حصانا لا يجارى- فركبه، وعليه كبر أطلس (٢) أحمر وكوفيّة، وأخذ بيده الرمح، وقدّم أثقاله وفرّق طلبه (٣) وقال: إنّ هؤلاء إذا دخلوا على العسكر ولست فيهم ظنّوا أنّي في الصيد، إذ ما القصد إلّا أنا، فما يعارضهم أحد لئلّا أجفل أنا.

وكان الأمر كما قال، لأنّهم عبروا عليهم فلم يتعرّضوا لهم، وعند ما بعدوا أقبل وحده وشقّ العساكر فلم يفطن له أحد، ونجا حتى لحق بأصحابه. ومن حذره، لم يجتمع بالأمير قراسنقر حتى استوثق منه بأيمان مؤكّدة خشية أن يكون قد باطن السلطان عليه.

واتّفق أنّه نفد ماله في توجّهه إلى غازان حتى كان قراسنقر يقوم به، وينفخ النّار بنفسه، ومماليكه نيام ما فيهم من يرحمه، وهو يتنهّد وعيناه تدمعان، إلى أن وصل إلى بيوت سوتاي [ف] عملت له ضيافة عظيمة ونصب له خام كبير (٤) ممّا كسبه التتار في نوبة غازان، وعليها ألقاب الملك الناصر، ونزل الأفرم به. وقام ليتوضّأ فرأى اسم الملك الناصر فوق رأسه فقال: كيف أعاند القدرة! نحن في هذا المكان، وقد خرجنا من بلاده، وهو فوق رءوسنا! وإذا كان الله قد رفعه [ف] كيف نقدر نحن نضعه؟

ومن حينئذ عاد إليه ناموس الإمرة ومشت مماليكه في خدمته إلى أن لقي خربندا وأنعم عليه بهمذان.

وبعث إليه الملك الناصر الفداويّة (٥) غير مرّة فلم يظفروا به. وقفز عليه أحدهم، وقدّامه بيطار ينعل فرسه فأمسكه بيده وضمّه إلى إبطه حتى أخذه مماليكه، فقرّره وقتله.

وحصل له في سنة أربع عشرة فالج. وكان قويّا [٢١٢ ب] يقاوم في الحروب بجماعة، وله شغف باللهو والصيد. تمتّع بدمشق في القصر الأبلق الذي كان بالميدان تمتّعا لم يسبقه إليه أحد،


(١) دستور في معنى الرخصة (دوزي).
(٢) الكبر الأطلس: قماش ملوّن معصفر.
(٣) الطلب بالضمّ: مجموعة الجنود الذين يرافقون القائد.
(٤) لا نجد الخام في معنى الخيمة ولعلّها قبّة من جلد خام (خيم) أي غير مدبوغ كما في اللسان.
(٥) الفداويّة: الفدائيّون المتطوّعون لقتله.

<<  <  ج: ص:  >  >>