للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بعث به السلطان في طلبه فأخذ يتوضّأ والجمداريّة تتوالى عليه، فلم يفرغ من وضوءه حتى صار عنده اثنا عشر جمدارا ما منهم إلّا من يستعجله، فقام يمشي وهو يقول: اللهمّ، أرحني بالموت حتى أستريح ممّا أنا فيه! - ولم يتّسع له وقت لسماع كلام ابن البابا حتى دخل على السلطان.

فلمّا انقضى موسم الحجّ وعاد السلطان من مكّة ونزل المدينة النبويّة، هبّت في الليل ريح عاصفة أظلم منها الجوّ وأتلفت (١) جميع الخيم، وكثر انزعاج الناس واختبطوا، وصار كلّ أحد لا يهتدي إلى خيمته ويهجم على موضع غير موضعه لشدّة الظلمة وقوّة الرياح. واجتمع المماليك والأمراء حول دهليز السلطان وقد اشتدّ خوفه أن يغتال في تلك الليلة. واتّفق مع ذلك هجوم جماعة على أمير أحمد بن بكتمر تريد قتله- فاتّهم السلطان بأنّه ندبهم لذلك- فلم يتمكّنوا منه، ورعب منهم وغشي عليه.

ثمّ وقع الرحيل من المدينة، وبكتمر على عادته مساير السلطان بجانبه، حتى وصلا بئر عليّ.

[ف] وجد أحمد بن بكتمر في نفسه ألما تزايد به إلى أن مات بوادي عنتر. ثمّ مات بعده أبوه بكتمر بثلاثة أيّام، فاتّهم السلطان أنّه سمّهما. فحملا ودفنا بعيون القصب (٢) [٢٩١ أ]. وكان يوما مهولا، خرجت فيه أمّ ولد بكتمر بسببه (٣) وصاحت على السلطان بأعلى صوتها: يا ظالم، أين تروح من الله؟ ولدي وزوجي! زوجي كان مملوكك، ولدي، إيش كان بينك وبينه؟ - وكرّرت ذلك حتى

سمعها الأمراء، وهو معرض عنها. وذلك في يوم [الجمعة عاشر المحرّم سنة ٧٣٣] (٤). ثمّ نقلا حتى دفنا بتربة بكتمر من القرافة، وعمل اجتماع بها مدّة سبع ليال يقرأ فيها القرآن، واحتفلت زوجته فيها احتفالا زائدا وتصدّقت بمبلغ ثلاثين ألف درهم. فرأى الشيخ زادة، شيخ خانكاه بكتمر في منامه آخر هذه الليالي السبع كأنّ بكتمر السّاقي على عادته في مكانه الذي كان يجلس فيه إذا جاء لزيارته، وعلى يمينه ابنه أحمد، وهو يقول: يا شيخ، كنت في مكان موحش، فسألت الله تعالى أن يخلّصني منه حتى أجيء وأصلّي معكم وتدعو لي.

وكان بكتمر قد حظي عند [٢٥٨ ب] السلطان حظوة ما نالها أحد غيره، وعظم شأنه، وصار هو الدولة لا يكاد السلطان يفارقه، إمّا أن يكون بكتمر عنده، أو يكون هو في بيت بكتمر. وأكثر أكله في بيت بكتمر ممّا تطبخه له أمّ أحمد بن بكتمر في قدر فضّة، وينام عندهم حتى ظنّ جماعة أن أحمد ابن السلطان، ممّا يحبّه ويقبّله ويحمله. فشهر ذكر بكتمر بحيث كان لا يهدى إلى السلطان شيء إلّا ويهدى لبكتمر مثله، وغالب ما يحمل إلى السلطان يكون لبكتمر فعظمت أمواله.

وكان يجمع خصالا حميدة، ولم يعارض السلطان في أمر من الأمور، وإذا أراد منه أمرا تلطّف فيه حتى يقضيه له. وكان السلطان يرجع إلى رأيه ويميل حيث مال.

وكان يلاطف الأمراء ويكثر من الإنعام عليهم وعلى من دونهم حتى ملك حاشية السلطان بإحسانه إليهم. وبلغ من السعادة مبلغا لم يحصل لأحد من أقرانه، وحملت إليه أمّه وإخوته وكثير


(١) في المخطوط: وألف.
(٢) عيون القصب بين العقبة والمويلح على مقربة من ساحل البحر الأحمر و ٨٠ ميلا من المويلح؛ النجوم ٩/ ١٠٥ هامش ٢.
(٣) قراءة ظنية.
(٤) الإكمال من السلوك ٢/ ٣٦٤؛ والنجوم ٩/ ١٠٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>