للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقفت به في الركب أبدي تجمّلا ... فأبدى الهوى ما كان يخفي التجمّل

فغنّيته إيّاه بعد أن استدعيت العود، فما هو إلّا أن بدأت به حتى وضع كمّه على وجهه وانتحب انتحابا شديدا متداركا. فتوقّفت عن الغناء رحمة له فقال: غنّي! - وأخذ في شأنه من البكاء. ثم قال: حسبك! انصرفي!

فقبّلت يده وقمت. فأخذ الخدم بيدي إلى قاعة قد فرشت وأعدّ فيها سائر ما يحتاج إليه الناس من الآلات والمأكل وغير ذلك، وجيء بابنتي وجواريّ إليّ، ثمّ أغلق علينا الباب. فو الله ما خرجت رجلي منها إلى أن توفّي رحمه الله.

وكان قد تنسّك وعمره أربعون عاما فكان يصوم، وإذا أفطر نام ثمّ نهض وصلّى إلى الصبح.

وكان يحمل كلّ سنة إلى بني حسن وحسين المال والبرّ والدقيق والدهن وغير ذلك، فلا يزالون في الدعاء له والثناء عليه، فمكّنوه لهذا من دفن أمّه بدار في جوار قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فلمّا حضرته الوفاة أوصى أن يدفن عند أمّه فحمل إلى المدينة النبويّة ودفن عندها.

ومن شعره [البسيط]:

من أخمل النفس أحياها وروّحها ... ولم يبت طاويا منها على ضجر

إنّ الرياح إذا اشتدّت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الثمر (١)

ورآه سيبويه الموسوس بعد موت كافور في موكب عظيم، فقال: ما بال أبي الفضل قد جمع كتّابه ولفّق أصحابه وحشد بين يديه حجّابه [٣٨٢ ب]، وشمّم أنفه (٢)، وساق العساكر خلفه؟

أبلغه أنّ الإسلام طرق، أو أنّ ركن الكعبة سرق؟

فقال له رجل: هو اليوم صاحب الأمر ومدبّر الدولة.

فقال: يا عجبا! أليس بالأمس نهب الأتراك داره، ودكدكوا آثاره، وأظهروا عواره، وهم اليوم يدعونه وزيرا، ثمّ قد صيّروه أميرا؟ ما عجبي منهم كيف نصبوه، بل عجبي كيف تولّى أمر عدوّهم ورضوه.

وكان قد زوّج ابنه أبا العبّاس (٣) بابنة الوزير يعقوب بن كلّس، فدخل أبو العبّاس علي ابن كلّس يوما، فقال له: يا أبا العبّاس، ما أنا بأجلّ من أبيك ولا بأفضل! أتدري ما أقعد أباك خلف الناس (٤)؟

شيل أنفه! بالله، يا أبا العبّاس، لا تشل أنفك كأبيك (٥)! أتدري ما الإقبال؟ نشاط وتواضع؟

وتدري ما الإدبار؟ كسل وترافع!

وكان أبو الفضل يهوى النظر إلى الحشرات والأفاعي والحيّات والعقارب وأمّ أربع وأربعين ونحو ذلك [٣٠٠ ب]، وكان له في داره قاعة لطيفة فيها هذه المذكورات، ولها قيّم وفرّاش وحاو يتعاهدها،


وتراه يصغي للحديث بسمعه ... وبقلبه، ولعلّه أدرى به
(١) أورد له ابن سعيد في المغرب- قسم مصر، ٢٥٢ - ثلاثة أبيات أخرى [الكامل]:
من لي بصحبة من إذا أغضبته ... وسخطت كان الحلم ردّ جوابه!
وإذا طربت إلى المدام سكرت من ... أخلاقه وطربت من آدابه
-
(٢) في المخطوط: وشمّر أنفه، والإصلاح من معجم الأدباء ٧/ ١٦٨.
(٣) هذا الابن هو الفضل (ياقوت، أدباء ٧/ ١٦٣)، وله ابن آخر يلقّب بسيدوك. ومرّ بنا ابن ثالث اسمه أحمد.
وخصّص المقريزي ترجمة وجيزة لابن آخر يدعى العبّاس وقال إنّه توفّي بمصر. (المقفّى رقم ١٤٣٠).
(٤) في معجم الأدباء، خلف الباب.
(٥) في النبلاء: بأبيك.

<<  <  ج: ص:  >  >>