للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وكتب كتابا ثالثا بمعناهما وفيه: إن مضيت لما أمرتك، وإلّا فأخوك إسحاق بن محمد أمير الناس!

فدعا عبد الرحمن الناس وقال لهم: إنّي لكم ناصح، ولصلاحكم محبّ، ولكم في كلّ ما يحيط به نفعكم ناظر. وقد كان رأيي فيما بيني وبين عدوّكم ما رضيه ذوو أحلامكم وأولو التجربة منكم. وكتبت بذلك إلى أميركم الحجّاج، فأتاني كتابه يعجّزني ويضعّفني ويأمرني بتعجيل الوغول بكم إلى أرض العدوّ، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس. وإنّما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم وآبى إذا أبيتم.

فثار إليه الناس وقالوا: بل نأبى على عدوّ الله ولا نسمع له ولا نطيع!

وكان أوّل من تكلّم أبو الطفيل عامر بن واثلة- وله صحبة- فقال بعد حمد الله: أمّا بعد، فإنّ الحجّاج يرى بكم ما رأى القائل الأوّل: أحمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك! (١) إنّ الحجّاج لا يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلايا كثيرة ويغشّي بكم اللهوب واللصوب (٢)، فإن ظفرتم وغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه. وإن ظفر عدوّكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم. اخلعوا عدوّ الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإنّي أشهدكم أنّي أوّل خالع!

فنادى الناس من كلّ جانب: فعلنا! فعلنا! قد خلعنا عدوّ الله!

وقام عبد المؤمن بن شيث بن ربعي ثانيا فقال:

عباد الله، إنّكم إن أطعتم الحجّاج جعل هذه البلاد

بلادكم وجمّركم تجمير فرعون الجنود. فإنّه بلغني أنّه أوّل من جمّر البعوث (١*). ولن تعاينوا الأحبّة أو يموت أكثركم فيما أرى. فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوّ الله الحجّاج فانفوه عن بلادكم!

فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجّاج ونفيه من العراق وعلى النصرة له.

ولم يذكروا عبد الملك بن مروان.

فجعل عبد الرحمن على بست عياض بن هميان الشيباني، وعلى زرنج (٢*) عبد الله بن عامر التميميّ، وصالح رتبيل على أنّه إن ظهر على الحجّاج أسقط عنه الخراج أبدا ما بقي، وإن هزم وصار إليه منعه.

فلمّا تمّ ذلك قفل عبد الرحمن إلى العراق، وسار وبين يديه أعشى همدان، وهو يقول [الرجز]:

شطت نوى من داره بالإيوان ... إيوان كسرى ذي [القرى] والريحان

من [عاشق] أمسى بزابلسان ... إنّ ثقيفا منهم الكذّابان [٢٧ ب]

كذّابها الماضي وكذّاب ثان ... أمكن ربّي من ثقيف همدان (٣*)

يوما إلى الليل يسلّي ما كان ... إنّا سمونا للكفور الفتّان

حين طغى في الكفر بعد الإيمان ... بالسيّد الغطريف عبد الرحمن ٥

سار بجمع كالدبى من قحطان ... ومن معدّ قد أتى ابن عدنان


(١) مجمع الأمثال ١٥٢: يضرب لكلّ ما هان عليك أن تخاطر به.
(٢) اللصب واللهب بالكسر: مضيق الوادي والشقّ بين صخور الجبل واللصوب واللهوب هنا: المضايق والمصاعب.
(١*) تجمير العساكر: حبسهم في الثغور ومنعهم من العود إلى أهليهم. قال عمر (رضه): لا تجمّروا الجيش فتفتنوهم (اللسان: جمر) وفيه أنّ كسرى جمّر بعوث فارس.
(٢*) بست: من أعمال كابل، وزرنج: قصبة سجسجتان (ياقوت).
(٣*) في ثقيف كذّاب ومبير: قولة منسوبة إلى أسماء بنت أبي بكر. انظر أنساب الأشراف ٧/ ٢ في ترجمة الحجّاج.

<<  <  ج: ص:  >  >>