فقدم عليه ووافقه فقاما بحرب نصر بن سيّار، فازداد بذلك أبو مسلم قوّة إلى قوّته وتمكّنا في بلاد خراسان لاشتغال نصر عنه بما دهمه. ثم إنّ أبا مسلم مال إلى ابن الكرمانيّ وأظهر طاعته وسلّم عليه بالإمرة فانخدع له وركن إليه. فقال له أبو مسلم: إنّه قد قوي أمرك ووهن أمر نصر، فابعث الآن عمّالك على النواحي.
فمشى ذلك عليه (١) وبعث ثقاته. فكان إذا بعث برجل إلى ناحية في جماعة، بعث أبو مسلم إليها مع أحد أصحابه بأضعاف ما بعث ابن الكرمانيّ فيدعون إلى الرضى من آل محمد، والناس تستجيب لهم حتّى كثف جمع أبي مسلم فانفرد بعسكره. وبعث إلى نصر بن سيّار وإلى عليّ ابن الكرمانيّ يقول لهما: إنّي رجل يدعو إلى الرضا من آل محمد، ولست أعرض لكم ولا أعين [٧٠ أ] منكم أحدا على صاحبه.
فلمّا رأى قوّة أبي مسلم بعث إليه يسأله موادعته وأن يدخل مرو. فاغتنم ذلك ومضى إليها وزوى أصحاب ابن الكرماني وأصحاب نصر عنها فدخلها في ربيع الأوّل سنة ثلاثين ومائة، وهو يقرأ:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [القصص:
١٥]. فلمّا تمكّن من مرو واستولى عليها قال نصر: «لا مقام لنا معه لما أرى من إقبال هذا الرجل وإدبار أمرنا». وبعث إلى ابن الكرمانيّ:
«هذا رجل يظهر الميل إليك وإنّما يريد ختلك، فصالحني». فصالحه على أن يكون أمرهما واحدا، وإن حاربه أبو مسلم رجعا إلى ناحية مرو.
وكان أبو مسلم يظهر لابن الكرمانيّ إعظاما وإجلالا، حتى إذا ضبط أمر خراسان، وغلب أصحابه ودعاته عليها، ومال الناس إليه من كلّ
أوب، اشتدّ حجابه، وغلظ أمره واستفحل، وبعث رسله إلى نصر بن سيّار، وقد آنسه وبسطه وضمن له أن يكفّ عنه ويقوم بشأنه عند الإمام. وأعلمه أنّ كتابا أتاه من الإمام يعده فيه ويمنّيه ويضمن له الكرامة. وكان رسله لاهز بن قريظ وسليمان بن كثير وعمران بن إسماعيل وداود بن كراز، وقال لهم: إنّي أريد مشافهته و [أن] أقرأ عليه كتاب الإمام.
فلمّا أتوه تلا [٧٠ ب] إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص: ٢٠]. فتنبّه نصر على ما أراد من تحذيره فقال: «أنا صائر معكم إلى الأمير أبي مسلم». ودخل بستانا كأنّه يلبس ثيابه، ثم ركب وابنه وهرب إلى الريّ فمات. وسأل أبو مسلم:
«هل أنذره أحد؟ - فأخبر بتلاوة لاهز الآية. فدعاه وقال: «يا لاهز، أعصبيّة في الدين؟ قوما فاضربا عنقه»، فضربت عنقه. وبعث أبو مسلم إلى ابن الكرمانيّ من قبض عليه وأتاه به فحبسه. وكان أخوه عثمان بن جديع بناحية هراة. فكتب أبو مسلم إلى أبي داود خالد بن إبراهيم في أمره، فقال لهأبو داود: إنّ الأمير أبا مسلم كتب إليّ في عبور النهر لأمر ستعرفه، فإذا عبرناه خلّيت بينك وبين ما وراء النهر وانصرفت أنا إليه.
فمشت حيلته على عثمان ومضى معه، فقال:
«لا يعبر إلّا أصحاب عثمان». فعدوا حتى إذا بقي في نفر وثب به أبو داود فقتله، وبعث برأسه إلى أبي مسلم. فأخرج عند ذلك عليّا وقتله.
وكان قد وادع شيبان إلى مدّة، فوجّه له جيشا فواقعوه فكشفوه. وصار إلى ناحية أبيورد، وأهلها أوّل من سوّد. فكتب إليه أبو مسلم أن بايع للرضى من آل محمد حتى لا أعرض لك.
فبعث إليه: بل بايعني [٧١ أ] أنت.
(١) هذا التعبير من كلام المقريزي، لا من منقوله.