فقال: أنا شيخ كبير لا طاقة لي، لأنّه قد ذهب منّي الأطيبان.
فقال له المأمون: لا بدّ من ذلك.
فقال الشيخ: «فاسمع ما حضرني». فقال اقتضابا [المجتثّ]:
أبعد ستّين أصبو؟ ... والشيب للمرء حرب
شيب وسنّ وإثم ... أمر لعمرك صعب
يا ابن الإمام، مهلا ... أيّام عودي رطب
وإذ شفاء الغواني ... منّي حديث وقرب
وإذ مشيبي قليل ... ومنهل العيش عذب
فالآن لمّا رأى بي ... عواذلي ما أحبّوا
آليت أشرب راحا ... ما حجّ لله ركب!
فقال المأمون: «ينبغي أن تكتب بالذهب» وأمر له بجائزة وتركه.
*** وكان المأمون يتعصّب للأوائل من الشعراء ويقول: «انقضى الشعر مع ملك بني أميّة! » وكان الفضل بن سهل يقول له: الأوائل حجّة وأصول، وهؤلاء أحسن تفريعا.
*** وتفرّد المأمون يوما في بعض تصيّده، فانتهى إلى بعض بيوت البادية. فرأى صبيا يضبط قربة وقد غلبه وكاؤها، وهو يقول: «يا أبه اشدد فاها، فقد غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها! » فوقف عليه فقال: يا فرخ غمّة (١*) ممّن تكون؟
قال: من قضاعة.
قال: من أيّها؟
قال: من كلب.
قال: من أيّها؟
قال: من الأحراء ثمّ من بني كنانة. فمن أنت يا خال، فقد سألتني عن حسبي؟
قال: ممّن تبغضه [اليمن] كلّها.
قال: فأنت إذن من نزار؟
قال: أنا ممّن تبغضه نزار كلّها.
قال: فأنت إذن من مضر؟
قال: أنا ممّن تبغضه مضر كلّها.
قال: فأنت إذن من قريش.
قال: أنا ممّن تبغضه قريش كلّها.
قال: فأنت إذن من بني هاشم.
قال: أنا ممّن تحسده بنو [١٣٦ أ] هاشم كلّها.
فأرسل فم القربة ودنا إليه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وضرب بيده إلى شكيمة الدابّة وهو يقول [الرجز]:
مأمون يا ذا المنن الشريفة ... وصاحب الكتيبة الكثيفة
هل لك في أرجوزة ظريفة ... أطرف من فقه أبي حنيفة؟
لا، والذي أنت له خليفة ... ما ظلمت في أرضنا ضعيفة
عاملنا مؤنته خفيفة ... وما جنى فضلا عن الوظيفة
فالذئب والنعجة في سقيفة ... واللصّ والتاجر في قطيفة
قد سار فينا سيرة الخليفة
(١*) لم نفهم فرخ الغمّة.