وأقعد يحيى بن أكثم معه على السرير، ودعا بشر بن الوليد فقال له: ما ليحيى يشكوك، ويقول إنّك لا تنفّذ أحكامه؟
فقال: يا أمير المؤمنين، سألت عنه بخراسان فلم يحمد في بلده ولا في جواره.
فصاح به المأمون وقال: اخرج!
فخرج بشر. فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، قد سمعته فاصرفه!
فقال: ويحك! هذا لم يراقبني فيك. كيف أصرفه؟
فلم يفعل.
*** ودعا المأمون يوما إسحاق بن إبراهيم المصعبيّ، فصار إليه، ومعه المعتصم وعبد الله بن طاهر وسائر جلساته ومغنّيه. فلمّا جلس المأمون على شرابه غنّاه محمد بن الحرث بن يستجير [المنسرح]:
لو كان حولي بنو أميّة لم ... ينطق رجال إذا هم نطقوا
فغضب المأمون وقال: «تغنّيني في وقت سروري وساعة طربي في شعر يمدح فيه أعدائي، وأنت مولاي وربيب نعمتي؟ » وأمر أحمد بن هشام صاحب الحرس بضرب عنقه، فأقامه ليمضي فيه ما أمره. فبادر عبد الله بن طاهر وشفع فيه فشفعه وأمر بردّه إلى المجلس وقال له: إيّاك ومعاودة مثل ما كان منك!
*** وكان المأمون يدين بتفضيل عليّ رضي الله عنه على جميع الصحابة. فتقدّم إلى القاضي يحيى بن أكثم بجمع العلماء للمناظرة في هذا. فجمع له منهم أربعين. فانتدب منهم واحد فقال: من أين قال أمير المؤمنين إنّ عليّا أفضل الناس بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟
فقال المأمون: خبّرني! بم يتفاضل الناس؟
قال: بالأعمال الصالحة.
فقال المأمون: فانظر ما رواه لك أصحابك من فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقس بها فضائل علي، ثم انظر فضائل أبي بكر وعمر، لا بل فضائل العشرة، فإنّك تجد فضائل عليّ أعظم [١٤٠ أ].
ثم قال: أيّ الأعمال كانت أفضل حين بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟
قال: التوحيد.
قال: هل علمت أحدا سبق إليه عليّا؟
فقال: إنّ عليّا أسلم حدث السنّ لا يجوز الحكم عليه.
قال: أجبني أيّهما أسلم قبل، ثمّ أناظرك على الحداثة والكمال.
قال: أسلم عليّ قبل أبي بكر (١*).
قال: فأخبرني عن إسلام عليّ: هل يخلو من أن يكون رسول الله دعاه إلى الإسلام، أو يكون إلهاما؟
فأطرق. فقال المأمون: لا تقل: إلهاما فتقدّمه على النبيّ. فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل.
فقال: دعاه رسول الله.
قال: فهل يخلو رسول الله من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلّف ذلك من قبل نفسه؟
فأطرق. فقال المأمون: لا تنسب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى
(١*) في الهامش حاشية: قال بعض الصحابة: لم يسلم أبو بكر أوّلا، ولكن كان أفضلنا إسلاما.