للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

زكريا يعتذر بأنّ الشّحّ على الملك دفعه على ما فعل وأنّه لا يحاربه قطّ بعدها، وسأله الخروج عن بلده. فخاتله مدّة سنة إلى أن وقع بين الشاميّين- وهم من سعد العشيرة من أصحاب العمريّ- وبين قيس عيلان شرّ، فاتّهم الشاميّون العمريّ أنّه مايل قيسا فتجنّوا عليه. وبلغ ذلك زكريا من جواسيس كانت له فراسل الشاميّين يدعوهم إليه ويعدهم ردّ ما أخذ لهم وإعطاءهم ما يريدون. فأجابوه وصاروا إليه فوفى لهم بما وعدهم وأقطعهم دون الجنادل الأولى من بلد مريس (١) من ناحية يقال لها ديدان وأدوى وما يليها. فخاف العمري وسار إلى معدن على ثلاث مراحل من النيل، وعمل أصحابه المعدن وخرجت سراياهم فضربت بلد النوبة.

وأرسل العمريّ يدعو الشاميّين إلى الصلح فأقبلوا إليه. وركب إليهم العمري فأوقع بهم وقتل منهم ألفا وخمسمائة وقبض على من بقي فقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم حتى ماتوا. وأقام على النيل من بلد مريس. فشقّ ذلك على زكريا وسار إليه في عدد عظيم فانطرد العمريّ بين يديه حتّى قرب من أسوان ونزل على قرية يقال لها أرطلما على مرحلة من أسوان. فخرج إليه شعبة بن حركام البابلي وقد بعثه أحمد بن طولون على جيش إلى أسوان خوفا من العمريّ. فلمّا قرب من العمري قال العمريّ لأصحابه، وقد بقوا نحو ألف ومائتي رجل: لا تعجلوا فإنّ هذا رجل أعجميّ، وأنا أخاطبه بنفسي وانظر ما عنده.

ثمّ خرج من عسكره وقال لمن قرب من عسكر شعبة: إنّي أريد أن أخاطب الأمير قبل وقوع الحرب بيننا.

فخرج إليه شعبة، ووقفا [١٦٦ ب] بحيث يسمع بعضهم كلام بعض. فقال العمريّ: إنّ الأمير أحمد بن طولون لم يبلغه خبري على حقيقته، وقد موّه عليه في أمري. إنّي لم أخرج أبغي فسادا، ويدلّك على ذلك أنّي لم أؤذ مسلما ولا معاهدا.

وإنّما خرجت في طلب أعداء المسلمين حتى كفانا الله أمرهم. فاكفف يدك عن القتال حتى أكتب إلى الأمير أيّده الله وأكشف له خبري، وتكتب أنت أيضا. فإن قبل عذري ولم تثقل عليه وطأتي وأمن جانبي، كتب إليك بالكفّ والانصراف فانصرفت مشكورا. وإن أمرك غير ذلك امتثلت أمره غير ملوم.

فقال له القائد شعبة: ليس أنا فيج [ا] (١*) لك أحمل كتابك. ما بيني وبينك إلّا السيف!

فقال له العمري: ما أنت بحمد لله شعبة الرجال، بل أنت بلعبة النساء أشبه، وما هذا الفعل السيّء والخلق القبيح إلّا لمن هو كذلك!

ورجع إلى أصحابه فقال: «هذا رجل جاهل أحمق. فدونكم وقتاله! » وحمل عليه بعد أن راسله ثانيا. فطلب منه شعبة أن يطأ بساطه، فسأله العمريّ أن يؤخّر ذلك إلى أن يعود إلى أسوان ويعطيه رهينته، فأبى عليه وحاربه فرزق العمريّ على شعبة الظفر وهزمه أقبح هزيمة وغنم ما كان معه وشبع أصحابه بعد جوع واكتسوا.

وكان العمريّ قد قسم رجاله خوفا من النوبيّ وجعل الشطر بإزاء النوبة فلم يدخل النوبيّ بينهم.

وقال: إنّي ما رأيت من يقف لألف إلّا رجلين:

العمري وابن قشما، وقد رأيت الثالث- يعني شعبة.


(١) المريس: من حدّ أسوان إلى آخر بلاد المقرة (ابن حوقل ٦٢) وعند ياقوت: مرّيسة والمريسة. وفي الوفيات ١/ ٢٧٨: قرية بمصر، أو جنس من السودان.
(١*) الفيج: الرسول من السلطان إلى من دونه. الخادم والساعي.

<<  <  ج: ص:  >  >>