مكانة ابن المرحّل وزادت وجاهته.
ولمّا بلغ ابن تيميّة وفاته قال: أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين! - فإنّه كان فصيحا مناظرا لم يكن في الشافعيّة أحد يقوم بمناظرة ابن تيميّة غيره. وجرت بينهما مناظرات عديدة.
وتخرّج به جماعة. وكان محظوظا من الناس.
عاشر الأفرم نائب الشام واختصّ به اختصاصا زائدا، ثمّ تمكّن بمصر من الملك المظفّر، وحظي عنده. ثمّ خاف من الوزير فخر الدين عمر ابن الخليليّ لمّا همّ بالقبض عليه ورماه بمساعدة المظفّر بيبرس، ففرّ من القاهرة ولحق بالملك الناصر محمد بن قلاوون، فعفا عنه.
وسار إلى دمشق بعد عود الناصر إلى السلطنة فعمل عليه في نيابة الأمير [١٨٩ ب] قراسنقر، فتوجّه إلى حلب وتصدّى للاشتغال بالعلم. فأقبل الحلبيّون عليه إقبالا زائدا، ووصلوه في مدّة عشرة أشهر بما يزيد على أربعين ألف درهم. وتمكّن من الأمير أسندمر نائب حلب وأحبّه حبّا كثيرا. ولم يقع بينه وبين أحد من الأكابر إلّا وعاد من أحبّ الناس فيه.
وكان حسن الشكل والبزّة، حلو المجالسة، طيّب المفاكهة، كريما جوادا، ينفق كلّ ما يتحصّل له على خلطائه بنفس ملوكيّة. فكان أهل المعروف يرون أنّ تلك الصدقات تدفع عنه السوء، فلطالما دخل في مضايق فينجيه الله منها. وكان يتردّد على أهل الصلاح يلتمس بركة دعائهم. وتعرّض له مرّة فقير في ليلة عيد وقال له: شيء لله!
فدفع له مائتي درهم لم يكن يملك غيرها، فلامه الشهاب أحمد [بن عبد الرحمن] (١) العسجدي على ذلك، فقال له: امض إلى كريم
الدين الكبير ناظر الخاصّ وقل له: الشيخ يهنّئك بهذا العيد.
فلمّا مضى إليه وهنّأه عن الشيخ أمر بألفي درهم للشيخ وثلاثمائة درهم له، فعند ما أتاه بها، قال:
صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الحسنة بعشر أمثالها:
أعطينا مائتين، بعث الله بألفين.
وكان فيه ملل لمن يعاشره.
وله من المصنّفات: كتاب الأشباه والنظائر، في الفقه. كتاب الفرق بين الملك والنبيّ، والشهيد والوليّ والعالم. وجمع موشّحاته وسمّاها «طراز الدار». وشعره جيّد مليح إلى الغاية. وكان عارفا بالطبّ، علما لا علاجا. قال عنه ابن تيميّة:
ابن الوكيل لا يرضى لنفسه بأن يكون في شيء إلّا غاية.
وكان إذا انقضى لعبه ولهوه تطهّر وصلّى وعفّر وجهه في التراب وبكى حتى تبلّل لحيته، ويكثر الاستغفار ويسأل الله التوبة. فإذا عاد فعل هذا أيضا.
ومن بديع شعره قوله [البسيط]:
ليذهبوا في ملامي أيّة ذهبوا ... في الخمر لا فضّة تبقى ولا ذهب
والمال أجمل وجه فيه تنفقه ... وجه جميل وراح في الدجى لهب
لا تأسفنّ على مال تمزّقه ... أيدي سقاة الطلا والخرّد العرب
فما كسوا راحتي من راحها حللا ... إلّا وعرّوا فؤادي الهمّ واستلبوا
٥ راح بها راحتي في راحتي حصلت ... فتمّ عجبي بها وازداد لي العجب
أن ينبع الدرّ من حلو مذاقته ... والتبر منسبك في الكأس منسكب
(١) الزيادة من الوافي ٤/ ٢٦٦.