للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

إليه حتّى غاب.

قال ابن أبي حاتم (١): وكان كما قال الأعرابيّ:

لقد رفع الله عزّ وجلّ شأن أحمد بعد ما امتحن وعظم عند الناس وارتفع أمره جدّا.

وذكر ابن الجوزيّ بسنده إلى أبي جعفر الأنباريّ (٢) أنه قال: لمّا حمل أحمد إلى المأمون أخبرت فعبرت الفرات فإذا هو جالس [في الخان] فسلّمت عليه فقال: يا أبا جعفر، تعنّيت! فقلت:

ليس في هذا عناء، وقلت له: أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فو الله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبنّ بإجابتك خلق من خلق الله. وإن أنت لم تجب ليمتنعنّ خلق من الناس كثير. ومع هذا فإنّ الرجل- يعني المأمون- إن لم يقتلك تموت، ولا بدّ من الموت، فثق بالله ولا تجبهم إلى شيء (قال) فجعل أبو عبد الله يبكي ويقول: ما شاء الله، ما شاء الله! .

وقال أحمد بن غسّان (٣) كنت سائرا مع أحمد لمّا طلبه المأمون فلمّا صرنا قرب غابة قال لي أحمد: قلبي يحسّ أنّ رجاء الحضاري (٤) يأتي في هذه الليلة، فإن أتى وأنا نائم فأيقظني، وإن أتى وأنت نائم أيقظتك. فبينما نحن نسير إذ قرع قارع المحمل (٥) فاستشرف أبو عبد الله فإذا هو برجل فعرفه أبو عبد الله بالصفة وكان لا يأوي المدائن والقرى، وعليه عباءة قد شدّها على عنقه، فقال:

يا أبا عبد الله إنّ الله قد رضيك له وافدا فانظر أن لا

يكون وفودك على المسلمين وفودا مشئوما، واعلم أنّ الناس إنّما ينتظرونك لأن تقول فيقولوا، فاعلم إنّما هو الموت والجنّة، ثمّ مضى (قال) فلم يكن بأسرع من أن ورد علينا قاصد المأمون، وهو رجاء الحضاريّ، فقال: أين هؤلاء الأشقياء؟ فقال له أحمد: يا عدوّ الله، تقول: القرآن مخلوق ونكون نحن الأشقياء؟ (قال) فأنزلنا من المحامل وصيّرنا في خيمة فخرج إلينا خادم وهو يمسح عن وجهه بكمّه ويقول: عزّ عليّ يا أبا عبد الله: [لقد] جرّد أمير المؤمنين سيفا لم يجرّده قطّ، وبسط نطعا لم يبسطه قطّ. ثمّ قال: وقرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم [٣ أ] لا رفعت عن أحمد وصاحبه حتّى يقولا: القرآن مخلوق. (قال) فنظرت إلى أحمد وقد برك على ركبتيه ولحظ السماء بعينه ثمّ قال: علا عن هذا الفاجر حكمك حتّى يتجرّأ على أوليائك بالضرب والقتل! اللهمّ فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته! (قال) فو الله ما مضى الثلث الأوّل من الليل إلّا ونحن بصيحة وضجّة وإذا برجاء الحضاريّ قد أقبل علينا فقال:

صدقت يا أبا عبد الله: القرآن كلام الله غير مخلوق وقد مات والله أمير المؤمنين (٦).

فلمّا مات المأمون ووليّ أخوه أبو إسحاق المعتصم ردّ بأبي عبد الله ومحمد بن نوح إلى بغداد، فمات محمد بن نوح في الطريق، ووصل أبو عبد الله إلى بغداد مقيّدا (قال) فكان أبو عبد الله يقول: ما رأيت أحدا على حداثة سنّه وقلّة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله إنّك لست مثلي: أنت رجل يقتدى بك، وقد مدّ الخلق أعناقهم [إليك] ليسمعوا مقالتك، فاتّق الله واثبت لأمر الله! (قال)


(١) عبد الرحمن بن أبي حاتم (ت ٣٢٧) صاحب كتاب الجرح والتعديل: الزركليّ ٤/ ٩٩.
(٢) أبو جعفر الأنباريّ: لم نعرفه.
(٣) أحمد بن غسّان الزاهد (ت نحو ٢٣٠): أعلام النبلاء ٩/ ٤٠٩.
(٤) رجاء بن أيّوب الحضاريّ أحد قوّاد المأمون فالمعتصم فالمتوكّل، الطبريّ ٩/ ١١٧، ١٩٧.
(٥) المحمل هو الهودج.
(٦) مات المأمون في رجب سنة ٢١٨. انظر ترجمته في المقفّى برقم ١٤٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>