للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مثله لأحدٍ من بعده، يريد بحيث يكون أكثرَ مِن أكثر ما علم الله عزَّ وجلَّ أنه سيعطاه مَلِكٌ إلى يوم القيامة. فلم يسأل من الله عزَّ وجلَّ أن لا يُعطي أحدًا بعده، وإنما سأله أن يعطيهم ما قد سبق في علمه أن يعطيهم مما علم أنه لا مزيد عليه، وسأله لنفسه أن يعطيه أكثر من أكثرهم، فتأمل هذا موفَّقًا.

ثم اعلم أن دعوة سليمان بهذا المُلك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، إنما هو من حيث الإجمال، أي بحيث إذا قيس مُلكُ أكبر مَلِكٍ ممن يجيء بعده بملكه لكان ملكه أكثر، ولم يُرِد التفصيل، فلو سَخَّر الله الريح لغيره دون غيرها لما لزم من ذلك تبيُّن عدم الاستجابة له، ولا يتحقق ذلك إلَّا لو أعْطَى الله أحدًا مِن الخلق مثل ما أَعْطَى سليمان جميعًا، ولكن لما كان من غرائب مُلك سليمان التسليط على الجن، رأى النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يدع تلك الواقعة التي كان أرادها من حبس ذلك، لا لأنها تستلزم تبيُّن عدم الإجابة، ولا لأنها تستلزم تبيُّن التخصيص، بل لأن التسليط على الجن من غرائب ما أوتيه سليمان، فظهور تسليط غيره عليهم مما يوهم الناس عدمَ استجابة دعوته، فَترَكَه - صلى الله عليه وآله وسلم - خشية الإيهام.

أو يقال: إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمَّا علم أن الله استجاب دعوة سليمان فأعطاه ملكًا كبيرًا لا يمكن أن يعطي أحدًا مثله، رأى أن طريق الأدب مع ربه عزَّ وجلَّ ومع أخيه سليمان أن لا يتصرف فيما هو من غرائب ذلك المُلك؛ لأنه لما كان من غرائب ذلك المُلك كان كأنه من خصوصياته، وخصوصياتُه كالجزء المهم منه، فإذا أمكنت لغيره كان كأنه لم يُستجب له. والله أعلم.

ومما يبين هذا أنه قد وقع إمساك بعض الجن لبعض أفراد الأمة، كما في حديث أبي هريرة في إمساكه للجنِّيِّ الذي جاء يحثو من صدقة الفطر