وأما إذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمحمد بن مسلمة وللحجاج بن علاط أن يقولا، يعني ما يحتاجان إليه في التوصل إلى المقصود، وهو قتل محمدٍ كعبَ بن الأشرف، واستنقاذ الحجاج ماله من المشركين. فالذي كان محمد بن مسلمة يحتاج إليه هو أن يوهم أنه يميل إلى النفاق، والذي كان الحجاج يحتاج إليه هو إيهام أنه على شركه، وأن المسلمين انهزموا عن خيبر، وغنم اليهود أموالهم.
وفي استئذان الحجاج من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قوله:«فأنا في حلٍّ إن نِلتُ منك؟»، ونيل الرجل من صاحبه أن يعيبه وينتقصه.
فهل أذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقولا كل ما يحتاجان إليه، ولو كلمة الكفر، كأن يصرح أحدهما بتكذيب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وسبِّه وسبِّ من أرسله؟
فإن قيل: أما التصريح بالكفر، فلا يجوز إلا لمن أُكرِه عليه.
قلت: فكما خرج هذا لعموم الأدلة المانعة من قول الكفر، فكذلك يخرج الكذب لعموم الأدلة المحرمة للكذب.
وعلى هذا، فإنما أذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ والله أعلم ــ في ما جرت به عادة عقلاء الرجال في مثل تلك الأحوال، من الإيهام، كقول محمد بن مسلمة:«إن هذا ــ يعني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ قد عنَّانا، وسألنَا الصدقة» صِدْق؛ فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان قد عنّاهم في سبيل الله، وسألهم الصدقة يأخذها من أغنيائهم، فيردها على فقرائهم. غاية الأمر أن تلك الكلمة «قد عنّانا وسألنا الصدقة» تُشعر بأن قائلها قالها على سبيل الشكوى.