للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الباب الثاني: مقدمة في الصدق والكذب

اعلمْ أنَّ من أعظم نِعَم الله عزَّ وجلَّ على عباده تيسيره لهم الكلام، الذي يتفاهمون به، ولولاه لكانوا كالأنعام أو أضل سبيلًا. أَلَا ترى أنَّ الإنسان إذا نَشَأ مُنْفَرِدًا عن أبناء جِنْسه لا يُدرِك إلَّا ما وقعت عليه حواسُّه، والحواسُّ لا تهتدي إلى حقائق الأشياء، فإذا رأى مثلًا شجرةً لم يهْتَدِ إلى معرفة نفعها من ضرّها إلَّا بتجربةٍ، والتجربة قد تُودِي بحياته، ثمَّ لا يهتدي إلى صفة استنباتها، والقيام عليها وإصلاحها إلَّا بتجربةٍ، قد يفوز فيها، وقد لا يفوز. ولعلَّه يقضي عمره كلَّه في بضع تجارب، ولا يتفرَّغ مع ذلك للنظر في غير قوته، فلا يمكنه تحصيل علمٍ، ولا إتقان صناعةٍ، ولا معرفة ما لم يقع عليه بصرُه من الأرض. فأمّا الدِّين فلا وَصْلَة بينه وبينه إلَّا بعض أمورٍ كليةٍ، إذا قُضِيَ له أن يتفرّغ لها، ورُزِقَ عقلًا صحيحًا، وذكاءً مرهفًا.

ثُمّ إذا اجتمع هذا بأمثاله، ولم يكن هناك كلامٌ يتفاهمون به، فقد يتعاونون على تحصيل القُوت ونحوه تعاون النمل والنحل، ولكنَّه لا يستطيع أحدهم أنْ يُطْلِعَ الآخر على ما اطَّلَعَ عليه، إلَّا بأن يذهب به إلى ذلك الشيء حتى يَقِفَه عليه، فإذا كان الذي اطَّلَعَ عليه الأول معنىً من المعاني تعذَّر إطْلَاعُه الآخر عليه.

نعم هنالك الإشارة، ولكنَّها ضئيلة الفائدة عسرة الفهم، وأنت ترى الأخرس وما يُعانيه من مشقَّة الحياة، وترى الغريب إذا دخل بلد قومٍ لا يعرفها، ولا يعرف لغتهم، ولا يعرفون لغته ما تكون حاله! فيسَّر الله عزَّ وجلَّ للنَّاس بالكلام أنْ يَطَّلِعَ أحدهم على جميع ما اطَّلَعَ عليه ألوفٌ منهم بأيسر وقتٍ.